تعب الفرنسيون من اليمين واليسار في آن معاً. 61 بالمئة من الفرنسيين لا يثقون بهما، والملل من الحملة الرئاسية المبكرة دخل عقول الفرنسيين قبل قلوبهم. عام كامل وهم يلاحقون يومياً نيكولا ساركوزي مرشح حزب الأغلبية الحاكمة، وسيغولين رويال مرشحة الحزب الاشتراكي. الصحف والإذاعات والأجهزة المرئية، لا شغل لها ولا عمل سوى ملاحقة "ساركو" و"سيغو".
الآن مع بدء الحملة الرسمية للانتخابات، أي قبل أربعة أسابيع من الدورة الأولى، تنفس الفرنسيون الصعداء. لقد تساوى المرشحون كلهم وهم أربع نساء وثمانية رجال. لا أحد أفضل من أحد. نيكولا ساركوزي أو سيغولين رويال لهما من الوقت على مختلف القنوات التلفزيونية ما يوازي جوزيه بوفي بشاربيه الكثيفين وخطابه المعادي لليبرالية والعولمة.
لكن هذا الدواء ليس لداء الملل الذي أصاب الفرنسيين. انهم يريدون التغيير لأن فرنسا بحاجة للتغيير للخروج من أزماتها الاجتماعية والاقتصادية، ولأن الفرنسيين أصيبوا بالتخمة من جراء ملاحقة رجال السياسة أنفسهم منذ ثلاثين عاماً. والبدلاء حتى الآن ليسوا على مستوى طموحهم ولا حتى على مستوى الأزمة التي تضرب فرنسا في أعماقها.
حادثتان تؤكدان حجم الأزمة، الحادثة الأولى عندما طلبت سيغولين رويال من مناصريها في التجمعات الأخيرة حمل العلم الفرنسي وإنشاد النشيد الوطني المارسيلياز. فتحول الطلب بنداً أساسياً في تبادل الحملات القاسية بين مختلف المرشحين. "سيغو" رأت في هذه المبادرة "محاولة لتنشئة شعب بشرح معنى الرموز له"، مضيفة ان دفع "الوطنية الفرنسية" إلى الأمام لا يتعارض مع "أوربة" فرنسا والتعلق بأوروبا. بدورها دخلت المرشحة الدائمة لليسار المتطرف أرليت لاغيليه فقالت "ان سيغولين توجهت نحو قومية ساركوزي".
الحادثة الثانية: عندما أدّت مساءلة مسافر في "محطة الشمال" في باريس عن بطاقة سفره إلى أعمال شغب استمرت ساعات بين المسافرين ومعظمهم من الضواحي ورجال الشرطة، وكاد المشهد يماثل في عنفه اضطرابات الضواحي في خريف العام 2005. وقد وقعت الحادثة يوم مغادرة نيكولا ساركوزي وزارة الداخلية للتفرغ لحملته الانتخابية. وإذا كان البعض قد رأى فيها "افتعالاً" لسيناريو قديم، فإن الخلاف تمحور حول "فشل السياسة الأمنية" للوزير نيكولا ساركوزي.
فشل السياسة الأمنية
سيغولين رويال رأت في سياسة ساركوزي "فشلاً متواصلاً وأن العنف الذي حصل يؤكد أن شيئاً ما لا يسير على ما يرام". وكان رد ساركوزي على عادته "اذا لم تعجبكم سياستي فلأن اليسار يريد الوقوف إلى جانب المخالفين". أما اليمين المتطرف فقد اختصر الحادث كعادته بوصف المخلين بالأمن "بالبرابرة"، وأن ما يحصل هو نتيجة "لسياسة الهجرة غير المضبوطة"، وأن الفرنسيين تعبوا من "وجود ثمانمائة ناحية سكنية ممنوع دخولها حتى على المرشحين".. أما فرنسوا بايرو مرشح الوسط أو الخط الثالث، فقد علّق انطلاقاً من "تفاهة سبب الحادث" قائلاً ان ساركوزي "حوّل الشرطة إلى قوة قمع فقط".
الفرنسيون لم يتعبوا من البحث عن مخرج لهم من هذا الوضع وكأنه القدر، وهم وإن كانوا يقترعون لمرشحي التطرف في اليمين أو اليسار معاً، فإنما لتوجيه "رسائل احتجاجية" أو "اعتراضية" فقط. ولذلك لا يغامرون بدفع مرشح من هؤلاء إلى الدورة الثانية. وقد تعلم الفرنسيون الدرس في العام 2002 من رؤية أنفسهم وهم يدخلون في "فم التنين" عندما فاز جان ماري لوبن اليميني المتطرف على مرشح الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان، فزحفوا للاقتراع للمرشح جاك شيراك الذي نال نسبة 82% من الأصوات، والتي لن يحصل عليها أحد ربما لعقود طويلة. وهم في هذه الدورة يبدو أنهم لن يعطوا أحداً من المرشحين المتطرفين فرصة تجاوز ثلاثة بالمئة سوى لجان ماري لوبن، بحيث لا يصل إلى أكثر من 13 بالمئة.
من ضمن عملية البحث عن حل ولو مؤقت، رفع الفرنسيون من حظوظ مرشح الوسط فرنسوا بايرو، بحيث تضاعفت نسبة المؤيدين له في الاستطلاعات أربع مرات في أقل من ثلاثة أشهر. وأحد أبرز الأسباب التي دفعته إلى المقدمة لمنافسة ساركوزي ورويال وحتى فوزه بعدة نقاط على أيّ من المرشحين اذا دخل الدورة الثانية، انه أعلن استعداده لاختيار "الأفضل من الرجال من اليمين واليسار معاً لتشكيل حكومته لخدمة فرنسا". مؤكداً أن حكومته لن تكون حكومة "مساكنة" كما حصل مع الرئيس الراحل فرنسوا ميتران أو الرئيس جاك شيراك.
سواء فازت سيغولين رويال أو نيكولا ساركوزي أو حتى فرنسوا بايرو، فإن الحديث بدأ منذ الآن في فرنسا حول الصاعدين من الجيل الجديد لخلافة كلّ هؤلاء السياسيين الذين ما زالوا يتبارون على السلطة منذ ثلاثة عقود، علماً أن نيكولا ساركوزي آخر أعضاء هذا "النادي"، الذي أمضى هذه العقود للوصول إلى محاولة انجاز عبور الخمسين خطوة التي تفصل مبنى وزارة الداخلية عن قصر الإليزيه. فهل يفوز أم يبدأ الفرنسيون التغيير بخطوة متواضعة وهي فتح الباب أمام فرنسوا بايرو الذي وعدهم بإقامة "الجمهورية السادسة".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.