لم تروِ القمة العربية "عطش" اللبنانيين لمعرفة مستقبلهم. أكثر من ذلك زادت أسئلتهم حول طبيعة الأيام القادمة. ما شاهدوه من مصالحات، وخصوصاً استقبال خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للرئيس بشار الأسد، ومن ثم المباحثات الثنائية المتعددة عقّدت من طبيعة هذه الأسئلة. اللبنانيون انتظروا كلاماً واضحاً على الأقل، اذا لم يكن من الممكن اعلان مواقف. لكن يبدو ان انتظار ترجمة النوايا هو سيّد الأحكام. فالكلام لم يعد يترجم واقع الحال، خصوصاً وأن سياسية الباطن أصبحت سياسة سائدة منذ سنوات.
عطش اللبنانيين
هذا "العطش" لدى اللبنانيين لا يعني مطلقاً انكاراً لما جرى في القمة، لأن ما جرى كان كبيراً، قياساً على طبيعة المرحلة التي يعيش العرب على وقعها الدامي منذ نحو 17 سنة.
والواقع ان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، قد أمسك بقوة بالقرار العربي المشترك وبإدارته وفقاً "لخطة طريق" وضعها بعناية واكتسبت ألوانها وإشاراتها خلال أعمال القمة. وهو أخذ الشرعية بداية من اخراجه للديبلوماسية السعودية من حالة الحذر والصمت والحركة البطيئة خلف الستار التي كانت تعمل بها بعناية مدروسة، الى حالة النشاط المتحرك والمتواصل والفعال دون ان يصل الى حد السقوط في فخ الانحياز الذي يقلق عادة دائرة التحرك.
ولعل نجاح مؤتمر مكة الفلسطيني، والانخراط في مؤتمر بغداد للعمل على اطفاء حريق العرقنة بالتوازي مع التشديد على أن "العراق محتل"، وأخيراً وليس آخراً ما قام به السفير عبد الرحمن خوجه وما يقوم به في لبنان، يؤكد سرّ هذا النجاح وإمكانية التأسيس وفقاً له ومن ثم البناء عليه.
"الشوارع الفنادق"
قراءة الاشارات والمؤشرات التي خرجت أو صدرت من المصالحة السعودية، السورية المصرية، تؤكد انها لم تكن "مصالحة رفع عتب" ولا مصالحة "عفا الله عما مضى". ذلك ان مستقبل العمل العربي المشترك في الميزان، ويبدو ان "تحسين سلوك دمشق في لبنان" هو الممر الاجباري للتثبت من حسن النوايا. ولذلك فإن تأكيد بقاء الأزمة اللبنانية تحت سقف التهدئة، تمهيداً لانتهاء "طبخة" الحل، هو الخطوة الأولى من سياسة الخطوة خطوة المطلوبة.
والخطوة الثانية وطبعاً عبر الحلفاء والأعوان، هو في العمل على وقف النزيف الاقتصادي المستمر، والذي يبقي فيه "مخيم رياض الصلح" الجرح مفتوحاً رغم ان زمن المكاسب والتظاهر بالقوة الشعبية قد انتهت مفاعيلهما. لأن المكاسب سقطت أمام جهود الأزمة وعدم سقوط الحكومة وانهيار الوسط التجاري مالياً وانعكاسات كل ذلك على الجسم الاقتصادي اللبناني. واما القوة الشعبية فلا أحد ينكر حجمها الذي قسم البلد الى قوتين متواجهتين بدلاً من أن تكون قوة واحدة لمواجهة مرحلة ما بعد الحرب ضد اللبنانيين.
والسؤال الملح الآن، هل يتم تفكيك "مخيم رياض الصلح"، كبادرة حسن نية، تعبر عن ارادة طيبة لفتح الباب أما حوار مطلوباً وملحاً ناجح، أو يستمر قادته مصرّين على التمسك به على غرار المثل الشعبي "عنزة ولو طارت". ولا شك ان الكلام الذي ورد كثيراً خلال القمة والذي تراوح بين الاستغراب والاستهجان حول سياسة تحويل "شوارع الازدهار الى فنادق"، يجب أن يشكل اذا حسنت النوايا دافعاً للخروج من هذا المخيم، المأزق.
العرب وعلى رأسهم السعودية قدموا لدمشق فرصة "على طبق من ذهب"، لفك عزلتها تمهيداً لاستعادة دورها مع انعقاد القمة العربية القادمة بعد سنة من الآن. والكرة الآن في دمشق. ولا سؤال الكبير هو كيف ستتعامل دمشق مع هذه الدعوة؟ هل تكتفي بمفاعيلها التي دخلت "كيسها" أم انها تعمل ربما للمرة الأولى للاستثمار من "كيسها" دعماً منها للرأسمال الذي تضارب به من الخارج؟
بانتظار الحوار مع واشنطن
اذا ما جرى قياس مواقف دمشق على ما سبق، فإنها قد تنتظر بصبر انهيار الكمية الأخيرة من "ساعة الرمل" التي راهنت عليها. ولذلك فإن دمشق إذا قبلت بإبقاء الوضع اللبناني موقتاً تحت سقف التهدئة، فإنها ستنتظر المباحثات التي طال انتظارها مع واشنطن، والتي ستشكل زيارة رئيسة الكونغرس نانسي بيلوسي محطة كبرى منها سيتم معرفة وجهة سير "القطار الأميركي" حالياً ومستقبلاً اذا ما فاز الديموقراطيون بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
كما ان لدمشق وهي تتعامل مع الوقت "الحق" في انتظار ما سيحدث على جبهة الخلاف الأميركي ـ الايراني، لأن انحسار التوتر والدخول في مرحلة من التهدئة وصولاً الى صياغة تفاهم ما على المدى الطويل، له انعكاساته الخاصة على وضع دمشق، كما ان انفجار مواجهة عسكرية لا يبدو أحد يريدها سوى جنون الهرب الى الأمام، لا بد أيضاً أن يصل زلزاله الى دمشق "الحديقة الخلفية" لإيران في المنطقة.
المشكلة ان الرهان لا يكون آحادياً في حالات المواجهة. فالآخرون لهم حساباتهم ورهاناتهم وبعض ذلك يكون كما في حالة دمشق مع واشنطن مبيناً على مواقع قوة أضخم بكثير، ولذلك تشدد واشنطن عبر القادة العسكريين اكثر من السياسيين "بأن السوريين يعرفون ما هو مطلوب منهم وما يتوجب عليهم قبل ان نجلس ونتفاوض معهم"، والقائمة طويلة من العراق مروراً بفلسطين وصولاً الى لبنان.
المحكمة أولاً
سياسة الخطوة خطوة تكاد تصبح سياسة فرنسية ـ أميركية تجاه أزمة لبنان وبالتالي للتعامل مع دمشق. ولذلك فإنهما تصران على ضرورة اقرار قانون المحكمة الدولية خلال نيسان، لأنه لا يمكن ترك الأمور معلقة. فلبنان بحاجة ماسة لخط دفاع رادع للمستقبل، والمحكمة هي هذا الخط. أما باقي الاستحقاقات ومنها رئاسة الجمهورية فإنه وان كانت في صلب "حزمة" الحل فإنها يمكن أن تكون خطوة لاحقة.
في هذه السياسة طريق حمراء أميركية ـ فرنسية واضحة أمام دمشق. ولذلك من الأفضل وللبنان أن تقر المحكمة بتفاهم وتوافق لبنان على قاعدة وضع ضوابط لها إذا كانت ملحة دون العمل على إفراغها أو تفريغها من مضمونها، بدلاً من السقوط في تجربة مواجهة صدور المحكمة بقرار دولي يستند إلى البند السابع ثم الصراخ عالياً بأن كل ما حصل ويحصل هو نتاج "مؤامرة" أميركية.
شهر نيسان هو شهر تحضير "السكة" للزراعة عند المزارعين، ويبدو انه سيكون لبنانياً شهراً قد يفتح أمام أبواب الربيع على مصراعيها، أو الأبواب نحو صيف ملتهب واللبنانيون الذين تستنزفهم هذه الأزمة يومياً ليس أمامهم سوى ملاحقة ما يحصل على ساحتهم والعمل على فكفكة رموز كل حركة وكل زيارة. وإذا كانت زيارة بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة تؤشر إلي حجم اهتمام المجتمع الدولي بسلام لبنان واستقراره. أما مجيء عمرو موسى أمين جامعة الدول العربية إلى بيروت فإنه سيعني الكثير، لأنه سيؤكد أن مرحلة حسن النوايا قد اثمرت، وأن طبخة الحل قد نضجت.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.