انتهت الحقبة "الشيراكية" عملياً. بدأت المرحلة "الساركوزية" أو "الرويالية" مبدئياً. ليست فرنسا وحدها التي أنهت فصلاً طويلاً من حياتها السياسية، ووضعت نقطة على سطر نهاية هذا الفصل، تاركة للتاريخ وحده حق الحساب والمحاسبة. العرب أيضاً يشاركون فرنسا الى حد كبير في هذه النهاية، ومع فارق ان التاريخ سيحاسبهم على أسلوب تعاملهم مع الفرصة الأخيرة لسياسة دولة مثل فرنسا، كانت توصف طوال تلك الحقبة بأنها السياسة الفرنسية الأكثر تشدداً عربياً.
حرارة سياسة شيراك
لقد أعطى شيراك الديغولي العرب، وخصوصاً اللبنانيين منهم، الكثير من وقته وجهده وتضامنه وموقف فرنسا الصلب مع قضاياهم، وأعطوه القليل القليل. ومن دون الدخول في التفاصيل التي يعرفها معظم العرب، فإن أكثر ما يُحرج الجميع، خصوصاً الفرنسيين، أن بعض الأصوات، ومنها لبنانية، أكدت نفاد صبرها من طول اقامة الرئيس شيراك في الأليزيه، لا بل أن بعضها يرى في السادس من أيار، أي اليوم الأخير لشيراك في قصر الأليزيه، موعداً لهم مع التاريخ، وكأن التاريخ يكتب من جهة واحدة لا جماعياً. وعندما كان شيراك يصيغ الحاضر لمصلحة العرب ولبنان كانوا وما زالوا يزرعون الألغام على أمل انفجارها في كل لحظة انشداداً منهم الى ماضٍ لا يشرّف أحداً منهم.
أكثر من ذلك، ان بعض تلك الأصوات تبدي شماتة ملحوظة متوعّدة باسم سيف الديموقراطية، بمحاسبة المواطن جاك شيراك أمام قضاء بلده. مع أنهم لا يعرفون استخداماً لهذا السيف سوى ضد شعوبهم. والدليل الأكبر على العمل لطعن العدالة بهذا السيف، محاولتهم اليائسة منع انشاء المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه.
الذين يقفون من العرب وخصوصاً اللبنانيين منهم ينسون أو يتناسون، وقوفه صامداً أمام جبروت الولايات المتحدة الأميركية لمنع وقوع الحرب ضد العراق محذراً من الغرق في مستنقع من العنف الأسود، لأنهم لا يعرفون منطقة الشرق الأوسط كما يعرفها. كذلك وقوفه مع فلسطين والفلسطينيين واحتضانه "الختيار" ياسر عرفات عندما نسيه أقرب الناس إليه من العرب. وأيضاً وأيضاً، منعه وضع "حزب الله" على لائحة المنظمات الإرهابية الأوروبية، وسحب القرار 1701 من البند السابع والإسراع بإرسال قوات "اليونيفيل" لوضع حد للحرب الإسرائيلية ضد لبنان.
اللائحة طويلة جداً، ولا حاجة لتذكير من صمّ أذنيه عن تجربة سنوات "الذئب" القادم إلى الإليزيه، سيعرف كيف يُسمعهم صوته الذي مهما التزم بمصالح فرنسا العربية فإنه لن يتحمس لموقف عربي ولن يتعامل معه وكأنه قضيته.
المصالح أولاً
وغداً في السادس من أيار، سواء انتخب نيكولا ساركوزي أو سيغولين رويال، فإن الأمر المؤكد أن انقلاباً في السياسة الفرنسية لن يقع لمصلحة الجاحدين أو الشامتين أو الجاهلين.
كلا المرشحين يصبّان في بحر واحد، وإن كانا من نبعين متباعدين ويمر كل واحد منهما في أراضٍ تضاريسها مختلفة جداً.
"ساركو" أو "سيغو" لا يخفيان صداقتهما لإسرائيل وانشدادهما إلى أمنها المطلق. الأول من منطلق يميني له امتدادات شخصية تعود إلى جذوره العائلية، وهو القادم من والد مهاجر من المجر ووالدة هي ابنة الطبيب بندكيت ملاح. وقد سبق لـ"ساركو" وهو الذي لم يكن لتفجّر مواقفه أي صمّام أمان حتى الآن أن قال وهو يقف على دبابة إسرائيلية في الجولان: "هنا نهاية حدود العالم الحر" أما الثانية، فإنها وان أحدثت انقلاباً داخل الحزب الاشتراكي إلا انها ستبقى مشدودة إلى جذورها "الميترانية" (نسبة إلى الرئيس الراحل فرنسوا ميتران)، أي التعلّق بأمن إسرائيل.
والمهم، أن التوازن الذي أقامته "الشيراكية" في سياستها الخارجية في مواجهة واشنطن، لن يكون كما كان. ذلك أن ساركوزي لا يخفي تعلّقه بالولايات المتحدة الأميركية، وقد سبق أن وصف خطاب دومينيك دوفيلبان رئيس الوزراء الحالي في الأمم المتحدة بـ"الغرور"، وهو لا يخفي مطلقاً تعلّقه بالرئيس جورج بوش إلى درجة لم يمانع، حتى الآن، وصف بعض الفرنسيين له بـ"بوش الصغير". بدورها فإن رويال لا يمكنها الخروج عن سياسة حزبها الأطلسية رغم رفضها لبوش وسياسته.
بعد هذه المقدمة الضرورية، فإن القاسم المشترك للمرشحين للرئاسة الفرنسية أصبح معروفاً وواضحاً بالنسبة للبنان. فكلا المرشحين، وخصوصاً ساركوزي الأكثر تشدداً في التنفيذ، أكدا موقفهما "الداعم لاستقلال لبنان وسيادته وضرورة إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي". وإذا كانت سيغولين رويال، التي أطلّت على السياسة الخارجية من لبنان في زيارتها الخارجية الأولى، تتحفظ عن الإعلان رسمياً عن موقفها من "حزب الله" وسلاحه، فإنّ ساركوزي أكد مراراً خلال الحملة الانتخابيّة رفضه لسلاح "حزب الله" لأن للدولة اللبنانية وحدها حق احتكار السلاح فوق الأرض اللبنانية.
منذ الآن، وقبل السادس من أيار، يجب الإعداد للتعامل بطريقة مختلفة مع سياسة فرنسية مختلفة، الغائب الكبير فيها التعاطف والتضامن والوقوف بصلابة رغم التجاهل في أحيان كثيرة.
لقد بدأت مرحلة جديدة نابعة من قلب العصر الجديد لبدايات القرن الحالي، وعماد هذه المرحلة الصراحة والمصالح المتبادلة، مع التشديد على انّ لبنان ستبقى له خصوصية في التعامل مع قضيته الحاضرة والمستقبلية وهي دعمه وضمان استقلاله وسيادته وحرّيته.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.