أثبت اللبنانيون وكل قواهم وأحزابهم، أنهم يرفضون الحرب الأهلية ولا يريدونها. كما أكدوا من خلال ردود فعلهم المتكاملة، أنهم متضامنون متكافلون في مواجهة هذا الخطر حتى لو كان مجرّد احتمال قائم على الفعل وردّ الفعل.
وما هذا إلا لأنهم أصبحوا على يقين، أن جريمة مثل جريمة جدرا انما وقعت كما وقعت، لأن أجهزة أمنية (بالتأكيد ليست لبنانية) او في صيغة معتدلة أن طابوراً خامساً خارجياً يقف وراءها تحريضاً وتخطيطاً ومشاركة في التنفيذ. وانه حتى لو ثبت ان المنفذين المباشرين قد قاموا بما قاموا به "ثأراً لشقيق"، فإنهم لم يكونوا أكثر من "أدوات تنفيذية" تم توظيفها ببراعة ودقّة ولكن أيضاً بخسة وإجرام واستهتار بمصير لبنان والمنطقة كلها.
وباختصار شديد، فإن من "فشل في تنفيذ كامل مخطط جريمة جدرا، لن يتراجع أمام الاجماع اللبناني، ولا بد أن يجرب مرة ثانية وثالثة سواء لتحقيق الهدف الذي وضعه لنفسه أو على الأقل لإبقاء اللبنانيين معلّقين على حافة سكين الخوف والقلق، تمهيداً لمقايضة كل ذلك عندما تدق ساعة المقايضة. وأمام هذه الخطر القائم والجلي، فإن المطلوب الذهاب أبعد بكثير مما يحصل وصولاً الى الدخول في صوغ مبادرة أو على الأقل الترحيب بمبادرة من الآخرين.
العقدة ليست في عجز القوى اللبنانية من "المعسكرين" عن القيام بهذه الخطوة الصغيرة لكن الضرورية والجبارة. العقدة أن الحالة اللبنانية كلها أصبحت أسيرة الاشتباك الحاصل بين الأزمة اللبنانية والأزمات الاقليمية والدولية، وكلما مرّ شهر على الأزمة وبدا أن عملية الاستحقاقات قد انتهت، ظهر ان الشهر الجديد يحمل في كل أسبوع منه استحقاقاً جديداً قد يكون أدق وأكثر صعوبة مما سبقه.
لبنان الآن على موعد مع تقرير نيكولا ميشال الذي التقى في بيروت كل ممثلي القوى والأحزاب اللبنانية. وهذا التقرير سيؤشر حكماً الى وجهة المسار الدولية في اقرار المحكمة ذات الطابع الدولي. ولذلك، فإن استمرار "تعليق" الدورة العادية لمجلس النواب حتى نهاية الشهر الحالي لا بد أن تصب في "طاحونة" تقرير ميشال لانتاج الموافقة على المحكمة.
والاستحقاق الثاني الذي سيأتي زمنياً في سياق تأكيد التشابك الحاصل، في انعقاد مؤتمر شرم الشيخ حول العراق، ولا شك ان وقائع هذا المؤتمر الذي ستحضره وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ووفد ايراني وسوري، ستؤشر الى التحولات المقبلة، ذلك ان عقد "مباحثات" أميركية ايرانية مباشرة وعلى هذا المستوى علانية سيكون حدثاً غير مسبوق، لأن مثل هذه "المباحثات" تؤسس لـ"المفاوضات" التي تكون حول "رزمة" متكاملة لكلا الطرفين.
استحقاق اضافي يعني لبنان مباشرة وهو مصير حكومة ايهودا أولمرت، ذلك أن أي "زلزال" سياسي يقع في اسرائيل لا بد أن تصل ارتداداته الى مساحة المنطقة وخصوصاً لبنان. ولذلك يجب مراقبة الوضع بحذر شديد على الصعيد الاسرائيلي للتعامل معه بحسابات دقيقة لأن أي خطأ في الحساب سيؤدي الى نتائج غير محدودة في حجمها وآثارها مهما كان "النصر الإلهي" فيها ضخماً وتاريخياً.
الماء دواء للغريق
بالرغم من أهمية كل هذه الاستحقاقات وما سيتبعها تبقى الانتخابات الرئاسية في لبنان "أم الاستحقاقات"، ذلك ان انتخاب رئيس جديد يعني خروج لبنان من قلب هذا الاشتباك المحلي الاقليمي الدولي. وهذه النتيجة قائمة في حالتي انتصار فريق على فريق مهما كان هذا الاحتمال ضئيلاً ولا شيء يؤشر اليه، فالانتصار في هذا الاطار لن يكون داخلياً فحسب، وإنما خارجياً أيضاً. وأما أن يقع التوافق الخارجي الداخلي، ويكون الرئيس "المنتخب" ثمرة له، تؤكد تلاوينها وحجمها ومضمونها طبيعة المرحلة المقبلة التي سيدخل اليها لبنان واللبنانيون.
يبقى احتمال ثالث وهو يعني دخول لبنان دائرة المجهول وهو مراوحة الوضع مكانه، أي أن تستمر الأطراف على مواقفها، ويكون تجسيد ذلك في بقاء "مخيم" ساحة رياض الصلح في مكانه، وحصول فراغ كامل في المؤسسات الدستورية أو الانقسام داخل السلطة تحت تسميات وشعارات لا تعني أكثر من الرفض المتبادل على طريق إكمال عملية ذبح لبنان بيد اللبنانيين. وبذلك تكون "جريمة جدرا" تجربة مصغرة للجريمة الكبرى، والتي لن تنفع الخطابات والاتهامات المتبادلة بشيء لأن الضحية هذه المرة لبنان كله.
المشكلة انه حتى الآن الجميع يعرف بأن لبنان يغرق، ومع ذلك لا يجد أحداً يمنع هذا الغرق سوى وصف مزيد من الماء دواء له مع أن المطلوب والملحّ المشاركة في تأمين دولاب لإنقاذه!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.