ثمة تسليم علني من دمشق بقضاء وقدر المحكمة ذات الطابع الدولي. تشديد الرئيس بشار الأسد على "استقلال وسيادة سوريا، وكون هذه السيادة فوق المحكمة"، نوع من الدفاع الهجومي مع تحصينه بدغدغة المشاعر الوطنية والقومية للشعب السوري على قاعدة ربط المحكمة بالانتداب المرفوض حكماً.
بدوره، فإن هذا الاستقبال الثنائي النادر جداً في تاريخ الديبلوماسية الفرنسية للنائب سعد الحريري من طرف الرئيس الخارج جاك شيراك والرئيس القادم نيكولا ساركوزي، هو نوع من "الهجوم الالتفافي" على الرافضين للمحكمة أو المعتقدين بأن مغادرة شيراك الأليزيه هي نهاية للعلاقة الخاصة التي تربط فرنسا ولبنان "السيد الحر والمستقل" من جهة، وتشديد على تواصلية الموقف الفرنسي الذي صاغه شيراك في اقامة المحكمة ومعاقبة الجناة والمحرضين والمخططين لجريمة 14 شباط وما استتبعها من جرائم، وهي كلها تقع تحت بند "الارهاب".
مرحلة جديدة
مبدئياً، دخل لبنان مرحلة جديدة. فالمحكمة ذات الطابع الدولي أصبحت وراءه. ومن الآن وحتى تقر في مجلس الأمن خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فإن مساراً جديداً للأزمة بدأ يرتسم. ومن الطبيعي أن تحصل ارهاصات وتفاعلات عديدة خلال ذلك.
لا يمكن استبعاد وقوع خضات أمنية جديدة، مهما علت شعارات التعلق "بأمن لبنان وسلامته".
ومن الواضح ان خروج لبنان من أسر انشاء المحكمة والتوجه نحو انشائها والبدء بإجراءاتها يسحب "ورقة" مهمة من أيدي المعارضة، لكنه لا يعني تعرية هذه المعارضة من أسباب وأسلحة الاستمرار في التصعيد. "ووجع" اللبنانيين من الأزمة هو عملياً عدة أوجاع في واحد.
والوجع الكبير هو في استمرار "مخيم" رياض الصلح رغم سقوط كل مفاعيله، ولعل أقسى ما في هذا الوجع، التماهي باستمراريته وكأن القائمين به يريدون ادخال استمراريته في مجلد "غينيس" للأرقام القياسية. ويبدو ذلك جلياً، في الاعلان يومياً زيادة يوم آخر من عمر المخيم. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن تقزيم وتسخيف مفاعيل استمرار "المخيم" على الاقتصاد انما مثل من يرش الملح على الجراح.
بعض هذا "الملح"، التعميم القائم داخل الأوساط الشعبية الملتزمة، بالقول: ضاق بعيون السلطة هذا "المخيم"، وكأن الاقتصاد اللبناني كان بألف خير قبله ولم يكن علينا 45 مليار دولار. أي اضافة مليار جديد لن تكون أكثر من اضافة نقطة ماء الى الكأس المرة الموجودة. والواقع ان هذا "المخيم" أصبح شوكة في أعين اللبنانيين على جميع الصعد. فهو اشعار يومي لكل اللبنانيين بخطر قائم ومتجدد ضد السلم الأهلي، والتوافق الميثاقي. بل انه أصبح شعار قادة المعارضة يشرع من خلاله التحريض المذهبي.
الأسلاك الشائكة
والذين يبررون استمرارية هذا "المخيم" يتناسون أن مشهد الأسلاك الشائكة المحيطة بوسط بيروت تخيف المستثمرين واللبنانيين في المهجر الراغبين في العودة، عدا زرع الخوف لدى السياح والمصطافين الباحثين عن الاستقرار والأمن قبل أي شيء آخر. والغريب أن تتجاهل المعارضة وعلى رأسها "حزب الله" كل ذلك، علماً ان الواجب الوطني كان يقضي بأن تتوجه كل السواعد نحو تحصين الجبهة الداخلية شعبياً واقتصادياً، بدلاً من العمل على استثمار انتصار حرب تموز لقلب موازين القوى الداخلية.
تكفي بعض الأرقام لإضاءة الجانب المظلم من هذا الوضع كله. فإذا كان النمو الاقتصادي قد بلغ عام 2005 صفراً فإنه نزل في العام 2006 الى ناقص أربعة، والقادم أعظم في العام 2007. الى جانب ذلك، وهو الأخطر برأي خبراء الاقتصاد، "ان أزمة البطالة وتنامي الهجرة لم يقتصرا على أصحاب المهن، بل تعدتها الى أصحاب الكفاءات العلمية العالية"، وأيضاً القادم أعظم.
أما "الرهينة" الأخرى القائمة حالياً فهي في الامساك بشرط انعقاد مجلس النواب على اساس تواجد ثلثي أعضائه، لفرض تسوية أخرى حول اسم الرئيس العتيد الذي يجب انتخابه ضمن المهلة الدستورية. ولا شك ان تشديد الخناق على "رهبة" النصاب في المجلس، لتحسين شروط التفاوض، يضع لبنان كله في قلب الاعصار.
إقرار المحكمة يفقد دمشق والمعارضة في لبنان ورقة مهمة في هذه الحرب المكشوفة داخل لبنان. لكن أيضاً يريح بعض المعارضة التي تريد "تبرئة ذمتها" أمام دمشق فهي مانعت وعارضت وتصلّبت ولكنها لم تنجح في وأد هذا المطلب الكبير لكل اللبنانيين ومعه المجتمع الدولي.
دخول لبنان فعلياً مسار الكشف عن الحقيقة يرفع درجات عديدة من آمالهم لامكانية ولادة لبنان محصّن مستقبلياً. لكن هذا الانجاز يبقى محصوراً في ربح معركة كبيرة من حرب طويلة، الداخل اللبناني فيها في اشتباك عميق مع الخارج الاقليمي والدولي. ولذلك يجب متابعة ما يحصل على الجبهة الاقليمية بحذر شديد لقياس ما سيحصل في لبنان. وكل ذلك على اساس برنامج مفصل وخريطة طريق واضحة، فالوضع لم يعد يحتمل القيام بردات فعل على افعال الآخرين، حتى ولو حققت أحياناً بعض النجاح.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.