ملفان تفرغ لهما الرئيس جاك شيراك، في الأسابيع الستة الأخيرة من ولايته، ملف التسليم والتسلم مع الرئيس المنتخب، مع التفاتة خاصة منه لمستقبل المقربين منه والأوفياء من المساعدين له، وملف المحكمة ذات الطابع الدولي المتعلقة بمحاكمة المخططين والمحرضين والمنفذين لجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه.
الملف الأول أنهاه شيراك كما أراد. الملف الثاني، تابعه بإصرار شديد على استكماله، لتسليمه "أمانة" الى الرئيس المنتخب نيكولا ساركوزي، وليس مجرد ملف من ملفات السياسة الخارجية لفرنسا، الذي يتطلب متابعة أخرى. وقد بلغ من تصميم وإصرار شيراك على وضع نقطة نهاية لملف المحكمة أنه لم يترك رئيساً ولا مسؤولاً له علاقة من قريب أو بعيد به إلا واتصل به شخصياً.
ومن ذلك انه كرر اتصالاته بالرئيس فلاديمير بوتين ليضمن موقف موسكو بعيداً من انعكاس أي ظلال على العلاقات الفرنسية ـ الروسية بسبب التغيير الرئاسي ومواقف الرئيس المنتخب نيكولا ساركوزي بكل ما يتعلق بمستقبل العلاقات مع موسكو.
شيراك والأمانة
الرئيس جاك شيراك أنجز العمل حول ملف المحكمة، الى درجة أن مسؤولاً فرنسياً مطلعاً يقول "ما تعمل له الديبلوماسية الفرنسية في نيويورك هو لبلورة أكثرية من أعضاء مجلس الأمن الى جانب إقرار المحكمة استناداً الى الفصل السابع، تعكس تنوع المجلس، لئلا يقال إن الموافقة جرت من طرف دولي واحد بسبب موقفه المعادي لهذا الطرف المعني أو ذاك".
ويشدد المصدر الفرنسي نفسه على"ان المحكمة ستكون عبر مجلس الأمن أو لا تكون، لأن "قناعة تسود بأن إقرارها عبر المؤسسات الدستورية في لبنان ليس ممكنا، فثمة عجز واضح على عدم امكانية ذلك والوضع اللبناني بحاجة الى معجزة لإقرارها داخلياً وزمن المعجزات خصوصاً في لبنان غير ممكن". وترى أوساط فرنسية مطلعة أن العامل الحاسم في هذا الإقرار، كان الانطباع الذي خرج به نيكولا ميشال الذي بقي في لبنان عدة أيام لم يترك مسؤولاً أو طرفاً سياسياً الا والتقاه لعله يصل الى حل لبناني يحول دون الوصول الى مجلس الأمن والعمل بالفصل السابع.
واستكمالاً لهذا التوجه، فإن إقرار المحكمة وفقاً للفصل السابع سيكون استناداً إلى البند 41 الملزم والذي يتضمن العقوبات في حال رفض أي طرف معني يطلب منه العمل بمطالب المحكمة تنفيذ الطلبات. ويشير مصدر فرنسي مطلع إلى ان ميثاق الأمم المتحدة يقوم على القانون الدولي الذي لا علاقة له بمبدأ السيادة الدولي، والمعروف ان دمشق وقعت على ميثاق الأمم المتحدة وهي ملزمة بالعمل بحيثياته.
خيبة باريس
وبالنسبة لباريس التي تعيش حالياً على وقع عملية التسليم والتسلم، فإنّ النشاط الديبلوماسي والسياسي الذي جرى خلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت الحملة الانتخابية وخلالها، المتعلق بمستقبل العلاقات العربية ـ الفرنسية، خصوصاً بعد أن تبين ان الرياح تجري بما تشتهي سفينة المرشح نيكولا ساركوزي، فإن هذا النشاط تركز على الا يكون هناك أي شك أو تلميح في أن السياسة الفرنسية من المحكمة وحتى من العلاقات بدمشق، متمحورة على الطابع الشخصي في التعامل للرئيس جاك شيراك، ولذلك جرى إيفاد فيليب مارياني عضو مجلس الشيوخ الفرنسي وعضو مجموعة الصداقة الفرنسية ـ السورية والمعروف "بساركوزيته"، بين أول نيسان والرابع منه إلى دمشق لاستطلاع الموقف السوري. وبرغم ان الموفد يتمتع بعلاقات مهمة في دمشق سمحت له بالالتقاء بالرئيس بشار الأسد، فإنه لم يحصل على ردّ يمكن للديبلوماسية الفرنسية البناء عليه. ومن ذلك انه سمع تكراراً في دمشق ان المطلوب من باريس إقامة علاقات معها خارج تأثير الملف اللبناني، ولا من زاوية أهمية هذا الملف في فرنسا، فيما لدمشق الحق بالتعامل مع الآخرين تبعاً لعلاقتهم بهذا الملف".
علاقات خارج لبنان
ويبدو ان ما سمعه ونقله عضو مجلس الشيوخ ماريني لباريس، ساهم بقوة في حسم الموقف، وفي استماع الرئيس المنتخب نيكولا ساركوزي لموقف الرئيس الخارج جاك شيراك بكل ما يتعلق بلبنان ومستقبله وبالتالي إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في مجلس الأمن، والمعروف ان الرئيس المنتخب نيكولا ساركوزي يتمتع "ببراغمتية" قوية تجعله يحسم موقفه تبعاً للوقائع وليس الانغلاق على مواقفه الخاصة.
الرئيس جاك شيراك كان يأمل ألا يغادر الاليزيه إلا وقد أقرّت المحكمة ذات الطابع الدولي سواء عبر المؤسسات الدستورية في لبنان أو من خلال مجلس الأمن لدى استحالة هذا الإقرار لبنانياً. لكن الخوف على أمن واستقرار لبنان وضرورة المحافظة على السلم الأهلي الهشّ، هو الذي دفع باتجاه ترك الأمور تنضج بهدوء، بحيث يلمس المجتمع الدولي وخصوصاً الأطراف التي لديها أي تحفظات، انه تم تنفيذ كل الوسائل الشرعية، وترك للجميع الوقت اللازم لكي لا تصل الأمور إلى مجلس الأمن ومع ذلك لم تنجح كل هذه الجهود لأن دمشق والمعارضة في لبنان أقفلت كل الأبواب أمام الحل، تحت تبريرات واعتراضات غير منطقية وغير مقنعة.
وأمام هذا الوضع لا يعود أمام المجتمع الدولي وخصوصاً أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين سوى النظر بإيجابية إلى الوضع الناشئ عن هذه المواقف والتعامل معه أيضاً بإيجابية.
السؤال في باريس لم يعد متى ستقر المحكمة في مجلس الأمن وإنما ماذا بعد إقرارها، وماذا سيحمل تقرير المحقق الدولي براميرتس المقبل؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.