الرجل المستعجل دائماً، نيكولا ساركوزي، استعجل دقيقتين وصوله الى قصر الاليزيه ليتسلم الرئاسة من سلفه جاك شيراك، لكن ليس دوماً في العجلة الندامة. أحياناً يبدو في العجلة الربح، فقد نجح ساركوزي في الفوز بالرئاسة كما خطط وعمل منذ سنوات، وساركوزي الرئيس وان كان دوماً على عجلة من امره، الا انه لا يبدو مرتبكا ولا فوضوياً، بالعكس يبدو وكأنه الرجل المستعجل ـ المنظم جداً.
من اليوم الأول، فرض الرئيس ساركوزي اسلوبه الجديد كلياً على قصر الاليزيه. وهو تسلم الرئاسة وفي جَعْبته الخطط والآلية السريعة والمفصلة لتنفيذها، والهدف إحداث التغيير بالسرعة نفسها التي يعمل بها. فالعداد نفسه يبقي مسألة النتائج مسألة وقت لتقدير صحتها وفعاليتها. طبعاً الرئيس الجديد يفعل حاليا على اساس انه على مشارف استحقاق كبير هو الانتخابات التشريعية. ففرنسا حسب الدستور ولئلا تقع في تجربة الخبطات السياسية التي تقلب الموازين وتخلط الحسابات محكومة باختيار مجلس نواب جديد بعد اربعة اسابيع من الآن. والرئيس نيكولا ساركوزي محكوم بربح هذه الانتخابات، وتكوين اغلبية مريحة له، حتى لا يضطر الى المساكنة مع رئيس وزراء معارض يوقف "قطار" التغيير الذي يريد ان يقوده.
ربح الانتخابات التشريعية
ومن اجل ربح هذه الانتخابات، أعاد رسم الخريطة السياسية في فرنسا، فعمل على التضحية ببيادق له ومحسوبة عليه، والمجيء بـ"أحصنة" من خارج التركيبة السياسية لحزبه لكي يشكلوا معا "أحصنة طروادة" له داخل القوى السياسية الواقفة في مواجهته وخصوصا الحزب الاشتراكي.
وبداية، اذا كان ساركوزي مستعجلا دوما فإنه اختار رئيساً للوزراء فرانسوا فيون، الذي يوصف بأنه "القوة الهادئة". وهذا الخليط من الشباب هو الذي سيحكم فرنسا على الارجح لخمس سنوات مقبلة. وتأكيداً بان ساركوزي كما يبدو من حركته رجلا منظما، فإنه كان قد اتفق مع رئيس وزرائه منذ مطلع العام الحالي على المشاركة. وهو من اجل التحضير لذلك، طلب من "صديقه" توني بلير رئيس الوزراء البريطاني ان يفتح امام فيون أبواب "10 داونينغ ستريت" لمدة يومين ليعيش يوميات الادارة البريطانية. وقد عاد فيون من هذه "الدورة" وهو مقتنع بأن بريطانيا الملكية تتمتع برئاسة وزراء فاعلة جدا بأقل بروتوكول مطبق وبانفتاح واسع وعميق على الكادرات الجامعية الكبرى واللامعة، مما يغذي الادارة برؤية مدنية بعيدة من بيروقراطية مكاتب السلطة التنفيذية.
الكلمة الأولى لساركوزي
الثنائي ساركوزي ـ فيون متضامن ومتكاتف ومتكامل، لكن من المؤكد ان الكلمة الأولى ستكون للرئيس، وهو سيعمل على أساس الامساك بالملفات الأساسية والطارئة الملحة مباشرة والاطلاع على تفاصيلها ميدانيا لمعالجتها خارج القرارات المكتبية المنصوصة، وقد ظهر ذلك فورا بانتقال ساركوزي الى تولوز لمعالجة ازمة "ايرباص" التي تهدد منذ فترة العلاقات الالمانية ـ الفرنسية من جهة وتؤشر الى ازمة عميقة في موقع يقع في قلب "العمود الفقري" للاقتصاد الفرنسي.
الرئيس السادس في "الجمهورية الخامسة" نيكولا ساركوزي، لن ينسف هذه الجمهورية ليقيم على انقاضها الجمهورية السادسة، لكن كما يبدو يريد ان يضع "البصمة الساركوزية" عليها، ولذلك ستبقى "الجمهورية الخامسة" لكن بلا "ديغولية"، فللقرن الواحد والعشرين شروطه وواجباته وبالتالي قراراته وآلية تنفيذها، فالعالم تغير وفرنسا يجب ان تتغير.
هذا العرض مهم جدا وضروري جدا لقراءة سياسة ساركوزي الخارجية، وخصوصا ما يهمنا منها تلك المتعلقة بالعالم العربي وبطبيعة الحال لبنان.
وبداية فإن البراغماتية والواقعية السياسية هي التي تطبع سياسة ساركوزي. وترجمة ذلك ان قواعد الايديولوجية والفكرية الصارمة التي تضع نقطة على سطر كل فعل ستكون غائبة، فنقاط الختام ستكون متحركة تبعا للمصالح وانسجاما مع المتغيرات والطوارئ.
فرنسا في بداية المرحلة الساركوزية، ستكون اكثر قربا من الولايات المتحدة الاميركية وأكثر انسجاما مع سياستها ورؤيتها للعالم، رغم التشديد على ان "الصداقة تعني الحرية". ومن الطبيعي ان هذا العنوان الكبير للسياسة الخارجية الفرنسية لا بد ان تكون تفاصيله جزءاً منه بالنسبة الى العلاقات مع روسيا او الصين، وحتى بالنسبة الى سياسة اوروبا وفرنسا الاوروبية.
اما بالنسبة الى منطقة الشرق الأوسط، فإنها في رأي الرئيس الجديد هي "المنطقة التي تقع على ابواب اوروبا وهي منطقة رهانات استراتيجية، لكنها ايضا منطقة ممزقة حيث الاخطار فيها تتزايد، وحيث اكبر مشاكل العالم فيها ومنها العراق والنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، ولبنان، وإيران ـ النووية".
سياسة متوسطية
لكن الرئيس ساركوزي وهو يستعرض هذه الحال جغرافيا، يخرج من التقسيمات السياسية المعروفة او المتعارف عليها دوليا وليس فقط فرنسيا. ولا يتخلى ساركوزي عن مبدأ "سياسة فرنسا مع العالم العربي أو حتى مبدأ السياسة العربية لفرنسا"، وانما يذهب الى ابعد من ذلك، فيضع خريطة جديدة للسياسة الخارجية الفرنسية مع هذه المنطقة. ذلك ان ساركوزي يتحدث عن منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وافريقيا، وباقي المناطق.
والعنوان الرئيسي الذي هو منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، يفتح الباب نحو فكرة "اتحاد متوسطي" مكمل للاتحاد الأوروبي، ليحقق بذلك توازنا استراتيجيا بين الضفتين، لكنه عمليا وتنفيذيا يفصل بين قضايا العالم العربي ومشاكله، ويحصر المسألة بالتنمية والاقتصاد والانفتاح على السلام، القائم اساسا على حل النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي وليس العربي ـ الاسرائيلي، من خلال اقامة دولة فلسطينية قابلة للعيش الى جانب اسرائيل آمنة وقوية تستند الى صداقة عميقة مع اوروبا وطبعا وأساساً فرنسا.
لبنان في قلب هذه السياسة، سواء أكانت عربية أو متوسطية او شرق أوسطية، فالعلاقات الفرنسية ـ اللبنانية، ليست صنيعة سياسة احادية ولا فردية، انها سياسة فرنسية لا تتغير الا في البصمة الشخصية بكل انفعالاتها وحرارتها، الرئيس ساركوزي لم يترك فرصة الا ووضع فيها لبنان في قلب هذه السياسة، الى درجة انه اختار التأكيد على ثوابتها بعد لقائه بالرئيس حسني مبارك قبل الانتخابات الرئاسية. ولهذه السياسة ثلاثة عناوين رئيسية بعدها يمكن الحديث عن عناوين فرعية ومفردات طارئة، والعناوين هي:
* مساعدة اللبنانيين في الدفاع عن سيادتهم ووحدة لبنان.
* سياسة متشددة مع "حزب الله" ومطالبة اقوى بأن يتحول الى "حزب سياسي منزوع السلاح".
* العمل على ان تتمم لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عملها.
حتى ظهور نتائج الانتخابات التشريعية في 17 حزيران المقبل، وتشكيل حكومة جديدة كاملة لا يمكن الحديث عن بداية حقيقية لـ"المرحلة الساركوزية".
لكن من الثابت انه مهما جرى من اعادة تشكيل السياسة الخارجية لفرنسا، فانها ستبقى محكومة بالتوازن من جهة وبمصالحها من جهة اخرى. الى جانب ذلك، فان فرنسا في هذه المرحلة الجديدة مع الرئيس نيكولا ساركوزي لن تكون ابدا فرنسا التي تعطي باليدين ومن القلب ولا تأخذ بالكاد بيد واحدة، وبالكلام الحلو. ولذلك يجب الانتباه بقوة لكل خطوة ولكل قرار. ذلك ان ساركوزي الواقعي جدا والبراغماتي العميق قادر على أحذ المواقف القادمة بعين الاعتبار في صياغة سياسته خصوصا وان لديه طموحا علنيا، بأن تتحول "المرحلة الساركوزية" الى "حِقبة ساركوزية".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.