ردّ مبادرة علي لاريجاني أمين مجلس الأمن القومي الايراني حول لبنان، إلى عنوانها قبل فضها وقراءتها بعناية وبتعمق خطأ سياسي مرفوض ومكلف. قبولها كما هي، خطوة متسرعة تنتج فشلاً مكلفاً أيضاً. هذه المبادرة "فرصة غير تقليدية يجب التعامل معها بمرونة وإيجابية". هذا هو الشرط الأول للواقعية السياسية، التي تتحكم شروطها وآليتها يوماً بعد يوم بعالم بلا حرب باردة.
بداية، عنوان مرسل المبادرة مهم، والعنوان المرسل إليه أهم. الأول من طهران ومن أحد أبرز صانعي القرار في طهران والممسك بالملف الأكثر حرارة وخطورة في العالم اليوم. ذلك ان علي لاريجاني ليس طارئاً على القرار السياسي، وهو قبل أن يكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية، أحد الذين يعرفون سقف تحركهم وتضاريس الحقل الذي يتحرك فيه. ولذلك عندما يطرح مبادرة سياسية عن لبنان، يعني ذلك انه يعرف ما يعني، وما يستهدفه.
خطوة باتجاه ساركوزي
العنوان الثاني، هو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. الأمين العام للأمن القومي الايراني، تعمد اختيار عنوانه، لانه يعلم جيداً أن التغيير الرئاسي في فرنسا لم يغير من علاقة فرنسا بلبنان سوى "الطابع الشخصي للعلاقة نفسها". ولذلك يمكن القول إن المبادرة هي "مؤشر اهتمام فرنسا الساركوزية وهي تجديد عملي ومفصل لما سبق وأن تحادث فيه نائب الرئيس أحمدي نجاد مع الرئيس جاك شيراك في خريف العام الماضي حول "العمل المشترك لتحقيق أمن واستقرار لبنان". وهي باللغة الديبلوماسية البحتة، إعلان حسن نوايا وأخذ واضح في الاعتبار من جانب طهران لخصوصية علاقاتها مع لبنان وضرورة العمل والتحرك من جانب ايران انطلاقاً من هذا الفهم والتفهم والقبول العلني.
وإذا كانت حيثيات المبادرة تشكل في مضمونها طرحاً علنياً من جانب إيران، بأنها طرف له حضوره وقدراته وبالتالي عروضه بما يخص لبنان، وبالتالي مطالبة علنية من فرنسا من خلال التعامل على هذه القاعدة، بواجب الاعتراف المتبادل بالأدوار، فإن لهذه المبادرة رسالة اخرى تدغدغ مباشرة باريس، ذلك انه عشية المباحثات الأميركية ـ الايرانية في بغداد، يتم طرح هذه المبادرة علناً، للقول بوضوح إن ملف لبنان لا علاقة له بالعراق ولا تتم المفاوضة حوله مع الأميركيين وان هذا الملف تتم معالجته مع من يعنيه مباشرة وهو فرنسا، إلى جانب هذا، فإن طهران وهي تطرح نفسها طرفاً في الحل بمشاركة فرنسية، تسحب علانية أحادية دمشق في التعامل بلبنان، لا بل تجعل منها طرفاً رديفاً لها وليس مقرراً مما يعني قلب الادوار نتيجة للانسحاب السوري من لبنان ونشوء 14 آذار.
المبادرة بنقاطها الاربع تقدم آلية عمل واضحة للتحرك. وفي الوقت نفسه ومثل كل مبادرة تطرح فإنها تشكل أرضية للنقاش يمكن البناء عليها من خلال مناقشات طويلة أو قصيرة يتم خلالها إعلان الرفض أو القبول لهذه النقطة أو تلك في إطار مسار واضح لصياغة اخرى أكثر توافقاً للجميع، وربما تؤدي إلى تقاطع أوسع وأعمق مع مبادرات أخرى.
تقاطع إيراني ـ سعودي
جدية هذه المبادرة، انها تأتي على قاعدة سياسية إيرانية عامة تتقاطع بوضوح مع المملكة العربية السعودية، ولذلك فإن استكمال المبادرة جاء على لسان وزير الخارجية الايراني المتشدّد منوشهر متكي بقوله "ايران تدعم أمن لبنان الشامل، واستقراره وتعارض أي تحرك ينال من سيادته" (في إشارة واضحة إلى معارضتها لتحرك "فتح الإسلام" في مخيم نهر البارد)، ومنتهياً إلى اتصال قريب سيتم مع نظيره السعودي الأمير سعود الفيصل.
عودة إلى المبادرة نقطة نقطة. والأولى هي تشكيل حكومة اتحاد وطني. وهذه المسألة متفق عليها بين الأطراف اللبنانية انما الخلاف حول هل تكون مثل الحصان الذي يوضع خلف العربة أم قبلها أي قبل إقرار المحكمة أم بعدها.
البند الثاني وهو الذي يتناول حالياً الملف الأكثر حرارة واستعجالاً وهو محاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه.
ومن الواضح أن البند يحاول أن يمسك العصا من وسطها. فهو يقبل أولاً بمحاكمة القتلة أياً تكن هويتهم. ثم يقبل بأن تكون المحاكمة ضمن إطار دولي ثم يعمل على سحب البساط من تحت أقدام إقرار المحكمة على أساس الفصل السابع. وتبدو هذه المحاولة كلها متأخرة جداً لأن مجلس الأمن أعطى مهلة أخيرة تنتهي في العاشر من حزيران المقبل. والأهم في هذا البند تمايز ايراني ـ سوري واضح وان كان ليس عميقاً لانه لا يحمل تناقضاً كاملاً، ذلك أن دمشق تعتبر المحكمة الدولية "تنازلاً من لبنان عن سيادته"، وهي لا تريد محاكمة أي سوري إلا حسب القضاء السوري علماً أن الحل الايراني يترك الباب مفتوحاً نحو قبول ايراني علني بمحاكمة أي مسؤول أمام هذه المحكمة في لبنان.
تمايز مع "حزب الله"
البند الثالث المتعلق بانتخاب رئيس جمهورية خلال ثلاثة أشهر أي حسب النص في الدستور اللبناني لأن المبادرة طرحت في 25 أيار والتوقيت المطروح يجعل الانتخابات في 25 أيلول القادم. والمهم ان الرئيس التوافقي يقع في مسار مختلف حتى الآن عن مسار حزب الله وحليفه العماد ميشال عون، فالاثنان يعلمان أن التوافق يلغي حظوظ ميشال عون بالرئاسة وهذا يعني حكماً تمايزاً في المسارين الايراني وحزب الله وعلى الأخير أن يأخذ بعين الاعتبار هذا التوجه الايراني مستقبلاً.
البند الأخير وهو الأهم على صعيد المستقبل حتى وان كانت صيغة هذا البند مطاطة وتضع مساره على سكة الإقناع وليس البت النهائي. فالمبادرة تشير إلى "إقناع حزب الله بتحوله إلى حزب سياسي وضم مقاتليه إلى الجيش اللبناني". والترجمة لهذا البند لا بد ان تكون استناداً إلى القاموس الايراني في التعامل مع حزب الله. فلأول مرة يطرح علناً من جانب ايران حل مشكلة حزب الله على أساس آلية واضحة. بندها الأول تحول الحزب إلى حزب سياسي أي حزب غير مسلح حتى لو كانت هوية هذا السلاح المقاومة.
والبند الثاني ضم مقاتليه إلى الجيش اللبناني.
وفي هذا الطرح العلني الايراني "كلام متقدم" لا يمكن إلا اخذه بعين الاعتبار، والتعامل معه بجدية كبيرة مقدمة للبناء عليه في إطار البحث عن حل نهائي للوضع في لبنان.
وهذا البند الرابع يجب أيضاً أن يقرأ من خلال فهم طهران لحرب تموز الأخيرة. ذلك ان طهران رأت في تلك الحرب "إجهاضاً لغموض ورقة سلاح حزب الله وخصوصاً سلاح الصواريخ في مواجهة إسرائيل" يضاف أن طهران التي رغبت بانتهاء الحرب بسرعة بعكس دمشق التي أرادت وسعت إلى إطالتها طالما انها ضمنت تحييدها عن العمليات العسكرية، رأت أن الحرب انتجت رغم النصر الذي تحقق تحولاً في وظيفة سلاح حزب الله في الجنوب، فبعد أن كانت وظيفة هذا السلاح المقاومة أصبح في ظل انتشار اليونيفيل والجيش اللبناني سلاح ردع. ولذلك لا يمكن مستقبلاً إلا العمل بحيثيات هذا التحول، لدى البحث عن أي صيغة متوازنة، للمحافظة على استمرارية حزب الله قوة سياسية لها وجودها وتمثيلها وقرارها في الصيغة اللبنانية.
المبادرة الايرانية، تؤكد من جديد مهارة حائك السجاد في التعامل مع السجادة التي يحيكها. فالحائك الايراني، وضع خيوطه العراقية، في سجادة حضوره الإقليمي أمام الأميركي، وهو يضع أمام الفرنسي خيوطه اللبنانية ليفاوضه ايضاً على شرعية حضوره.
أما الآخرون الذين يتعاملون بردة الفعل على الفعل فما عليهم سوى الانتظار كما اعتادوا ودائماً لتكون المفاجأة كبيرة لأن اللوحة النهائية تكون دائماً ملكاً للحائك وليس للمشاهد حتى ولو كان فريقاً في كل ما يحدث.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.