جميع "المعارك" التي تخوضها الجمهورية الإسلامية في إيران، في خدمة حرب واسعة وكبيرة مع الولايات المتحدة الأميركية. الإيرانيون لا يريدون خوض حرب مباشرة مع الأميركيين. يعرفون جيداً، أنهم في حرب عسكرية محدودة أو شاملة، يخسرون مهما سجلوا من نقاط ضد عدوهم. لا بل يدركون جيداً أن الأميركيين قادرون على إرجاع إيران الى زمن بدايات القرن الماضي. فالأميركيون يملكون القدرات العسكرية لتدمير كامل البنى التحتية في البلاد، والعراق هو الشاهد الحي الماثل أمامهم مثل مرآة الصباح.
أمام هذه القناعة، تجري المواجهة على طريقة الحرب الباردة الماضية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، ولو على صورة مصغرة تعود الى طبيعة الأحجام والأوراق. وإذا كانت قد وقعت مئة حرب وحرب خلال تلك الفترة، دون أن تقع المواجهة الكبرى، فلماذا لا يحصل ذلك بين واشنطن وطهران، كما ترى قوى سياسية إيرانية متعددة الاتجاهات والانتماءات.
"النمر الجريح"
ودائماً على قاعدة القياس المعروفة، فإن طهران تعرف أيضاً أن اختلال التوازن في القوى الذي ليس لصالحها، يجبرها على عدم استفزاز "النمر الجريح" الأميركي. ولذلك من الضروري التفاوض معه، ولو قتلاً للوقت بالوقت. رغم أن مثل هذه العملية، هي "مخالفة ايديولوجية" صريحة لبدايات الثورة. والدليل الساطع على ذلك، أن جلسة الحوار العلنية الأولى في بغداد، جرت في يوم ذكرى وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني.
رد القوى المحافظة والمتشددة داخل النظام على هذا الاتهام يقوم على قاعدة ثلاثية الأبعاد هي:
* إن الولايات المتحدة الأميركية هي التي بادرت الى قطع العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في إيران فور انتصار الثورة، وهي التي شنت الحرب المفتوحة، وهي اليوم تطلب الحوار والتفاوض حول العراق لأنها بحاجة لطهران.
* إن الخط الايديولوجي الذي حكم طهران منذ الثورة يقوم على خط أحمر واحد في العلاقات الدولية يتناول إسرائيل (الكيان الصهيوني المغتصب) وحدها دون غيرها.
* إن الجمهورية الآن هي غير التي تعامل الأميركيون معها، لأنها تحولت الى "قوة اقليمية قادرة ونافذة ومؤثرة". وأي محاولة لاختبار هذه القوة مفتوحة أمام واشنطن "مجاناً".
السلامة والخط الأحمر
"الرسائل" المتبادلة بين واشنطن وطهران سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية. والمساحة المميزة حالياً لأقوى "الرسائل" هي في العراق وبعده أفغانستان، ثم فلسطين. أما بالنسبة للبنان فإن تعقيد الساحة في لبنان يفرض تعقيدات عميقة في التعامل. ذلك أن طهران محكومة من جهة بالحفاظ على "حزب الله" قوة لها حضورها ونفوذها وقوتها وغموض وظيفة سلاحها من جهة والالتزام بدقة (ما هي ملتزمة به أصلاً لأسباب إيرانية) بالعمل على منع الفتنة المذهبية. هذا في وقت تتداخل فيه هذه العملية مع علاقة طهران بدمشق الاستراتيجية، مع أن الأهداف مختلفة خصوصاً في لبنان، وبالتالي فإن الوسائل متباعدة. وفي حين أن الهم الإيراني يقوم على إنجاز هذين الهدفين المترابطين، فإن دمشق ليس لديها أي خط أحمر أمام تحقيق سياستها، فلا شيء يعلو في أهميته وموقعه على ضرورة إزالة مرارة انسحابها من لبنان من جهة، واستعادة أقصى ما يمكنها من نفوذ لها فيه من جهة أخرى. ولذلك لا يوجد خط أحمر أمام دمشق في تعاملها مع "الساحة" اللبنانية. حتى حزب الله يتحول في الوقت المطلوب والمناسب الى هدف أو في أحسن الأحوال الى علبة بريد دامية أحياناً.
وإذا كان الرئيس أحمدي نجاد يرى أن إيران "أسد لا يجب اللعب بذيله"، فإنه أيضاً لا يذهب بعيداً في تظاهرة القوة هذه، فإنه يأخذ بالمثل المصري القائل "يا نحلة لا أريد عسلك ولا أن تعقصيني". ولذلك فإن طهران وهي تعتمد "النخز" وتوجيه "الرسائل" يومياً والتي بعضها دامٍ على مساحة "القوس الإسلامي"، تستمر في التفاوض على مستويات مختلفة منها:
* تبادل "الرسائل" عبر السفارة السويسرية.
* مباحثات دائمة في نيويورك بين السفير الإيراني في منظمة الأمم المتحدة والمسؤولين الأميركيين.
* "رسائل" عبر وسطاء دوليين وحتى رجال أعمال. وهذه "الرسائل" تبقى غير رسمية قابلة للنفي بدون مرتجعات ومحاسبة.
واستكمالاً لذلك فإن طهران وهي تلعب على الوقت لإنجاز ما خططت له ونفذته للحصول على القوة النووية والاعتراف بها قوة اقليمية عظمى، تعمد الى التقرب من أوروبا وتحديداً مع باريس، خصوصاً "أنه لا يزال لدى الإيرانيين صورة ايجابية تجاهها، وأن علاقاتها لم تقترب حتى الآن من واشنطن". وفي الوقت نفسه لا تنسى طهران التذكير بأن أي "حرب عسكرية" تعني وصول سعر برميل النفط الى 250 دولاراً، مما يشكل كارثة قاتلة لأوروبا قبل الأميركيين وغيرهم.
واللعبة السياسية مفتوحة دائماً في هذا السياق على الخليج المجاور. وإذا كانت طهران تؤكد يومياً تفاهمها مع السعودية، وتعمل على إصلاح علاقاتها مع الإمارات المتحدة، فإنها لا تنسى توجيه "رسائل" واضحة الى من يعنيهم الأمر ومباشرة، أن السلام مهمة الجميع وأن الحرب مُكلفة جداً للجميع. ومن ذلك أن الرئيس أحمدي نجاد قال لأمير قطر خلال لقائه به: "ساعدونا لمنع الحرب مع الأميركيين تساعدون أنفسكم. إن لديكم قاعدة أميركية حساسة وضخمة للأميركيين. وهي بلا شك هدف أول ومشروع لنا في أي مواجهة عسكرية".
طهران تعمل وكأن الحرب واقعة اليوم وليس غداً. وهي تفاوض وتناور لفرض خيار الحل السياسي. وفي الوقت نفسه فإن طهران وهي تفاوض تفضل ألا تعطي شيئاً لإدارة تمر في الربع الساعة الأخير من عمرها، ولذلك تفضل أن تأخذ وتعطي لإدارة جديدة ليست محكومة بهاجس الرحيل من جهة ودخول التاريخ من جهة أخرى كأسوأ رئيس وإدارة أميركيين في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. والخوف الكبير في طهران أن يسارع الرئيس جورج بوش والصقور في إدارته وعلى رأسهم نائبه ديك تشيني الى تحمل مخاطر أعباء القرار بالحرب في ربع الساعة الأخيرة من الولاية، حتى يجد الرئيس المنتخب نفسه أمام واقع قائم عليه التعامل معه بحسم بدلاً من التعامل مع احتمالات عديدة مفتوحة على الحل السياسي أيضاً.
مشكلة طهران أنها وهي تقوم بذلك "ترقص مع الذئاب"، وهي محملة بأثقال "حزمة" مطالبها الضخمة التي تجمع بين المطالبة بالقبول بحقها بالتخصيب النووي والحصول على القوة النووية، وشرعية حضورها كقوة إقليمية عظمى في المنطقة مع ما يعني ذلك من "حقوق ضخمة وواجبات محدودة". أمام خروج الجمهورية الإسلامية في إيران سالمة، لا يوجد خط أحمر.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.