دمشق سعيدة. سقط الحصار عنها. الطريق إليها سالكة على خطين. العلاقات تتغيّر. البداية في كل الاتصالات والحوارات "ان دمشق لاعبة مهمة" في منطقة الشرق الأوسط. العواصم الأوروبية تتدافع للحوار مع دمشق. كل تغيير في السلطة في عاصمة أوروبية يحمل نبأ ساراً للقيادة السورية. آخر هذه الأنباء السارة حصول الرئيس نيكولا ساركوزي على أغلبية مطلقة في البرلمان، يستطيع معها ومن خلالها فرض ما يريد لفرنسا في سياستها الخارجية.
يكفي دمشق أن ساركوزي المرشح قد أوفد قبل انتخابه موفداً له إليها، حيث بقي ثلاثة أيام. وأن باريس اعتادت استقبال اللواء آصف شوكت عندما كان ساركوزي وزيراً للداخلية في إطار التعاون الأمني، خصوصاً في كل ما يتعلق بالمجموعات الفرنسية ـ المغاربية التي اختارت "الجهاد" في العراق مروراً بدمشق. والآن باريس الساركوزية التي لا تنسى الخدمات الأمنية، استقبلت اللواء آصف شوكت مؤخراً.
تغيير فرنسي مهم
الواقعية السياسية تفرض الاعتراف بأن تغييراً مهماً حصل في باريس بعد انتخاب نيكولا ساركوزي رئيساً للجمهورية. ولا يعقل أن يحصل مثل هذا التغيير في القمة من دون أن يقع التغيير في النهج والإدارة، وأحياناً في مواقع محددة في المضمون. وما يهم اللبنانيين هنا، وبطبيعة الحال دمشق، هو معرفة حقيقة التغيير الذي حصل في السياسة الفرنسية من لبنان ومع دمشق، خصوصاً أن ذلك يؤشر حكماً إلى توجه عام أكثر تلوناً بالنسبة لأوروبا.
باريس الساركوزية تريد الحوار مع دمشق لكن ليس على حساب لبنان. فالسياسة الفرنسية، ومعها الأوروبية، حيال "قيام لبنان المستقر والمزدهر" ثابتة لم تتغير. لا بل ان هذه القاعدة هي النواة الصلبة التي تتشكل حولها هذه السياسة الفرنسية ـ الأوروبية، وبذلك من يعمل لتحقيق هذه القاعدة، مرحّبٌ به أوروبياً وبطبيعة الحال فرنسياً، ومن يعمل ضدّها فإنه يعمل ضدّ الجميع والبداية دوماً هي في العودة إلى الحوار، وأولى خطوة لنجاح هذا الحوار دفعه لكي ينمو في أجواء من الثقة المتبادلة، ومن دون تلك الثقة، يصبح الحوار نوعاً من الحراثة في الماء.
والمقدمات توحي دوماً بالنهايات، أوروبا تؤكد يومياً انها "لا تعتقد أن الدور المستمر لسوريا في لبنان هو دور بنّاء". والحل أن تنهج دمشق "سلوكاً مختلفاً"، أساسه الدفع نحو إقامة السلام في لبنان. وهذا النهج كما يبدو حتى الآن من الكلام الفرنسي ـ الأوروبي أساسي، فلا هدايا مجانية لأحد، خصوصاً في زمن سياسة المصالح المتبادلة، التي لا تعرف العواطف.
الرئيس نيكولا ساركوزي، يكرّر اليوم ما فعله الرئيس جاك شيراك بالأمس مع دمشق، لكن ربما تحقيقاً لهدف أكبر يؤكد الثابت اللبناني في هذه السياسة. فالرئيس الفرنسي السابق تبنى "الخليفة بشار الأسد" في خطوة تجاوز فيها البروتوكول الفرنسي الدقيق. وهو تابع تلك السياسة مع الرئيس الأسد. لكن في النهاية تبين لشيراك انه أعطى الكثير ولم يأخذ شيئاً. ومع توالي الأحداث و"الغصات" ثبت لدى شيراك أن لا أمل بالتغيير فأعلن يأسه ثم جاء زلزال 14 شباط، فقرر المقاطعة.
ساركوزي المستعجل الدائم
ساركوزي يريد أكثر ولذلك يذهب أبعد. يريد مساعدة صديقه الرئيس جورج بوش على الخروج من المستنقع العراقي من دون أن تلحق الهزيمة به لأن زلازلها الارتدادية ستضرب الغرب كله. وهو يأمل أن تساعده الظروف والتطورات لتحقيق السلام بين العرب والإسرائيليين وتحقيق الحلم الاوروبي الجديد وهو "إقامة اتحاد متوسطي" مكمل للاتحاد الأوروبي المتمدد على الضفة الشمالية لحوض البحر المتوسط.
انطلاقاً من هذا "التركيز على عملية السلام"، فإن ساركوزي يريد استثمار علاقاته "الممتازة والعميقة" مع إسرائيل، بحيث لا يمكن لإسرائيلي أن يصرخ بأنه يبيع إسرائيل، للدفع باتجاه تحقيق السلام في الشرق الأوسط، ومن الطبيعي أن تكون دمشق ركيزة أساسية في هذه السياسة. ذلك ان دمشق مهما كابرت وتلكأت لا يمكنها الخروج من "حلم" استعادة الجولان. وطالما ان مفتاح الحل يكمن في الشعار الكبير "الأرض مقابل السلام"، وطالما ان هذا الشعار أصبح مقبولاً ومأخوذاً به أوروبياً، فإنه يمكن من خلال الحوار مع دمشق استناداً إلى العلاقات التاريخية المعروفة لفرنسا مع العرب، الدفع باتجاه الحل، وفي "رسالة" واضحة لدمشق فإن الموفد الفرنسي السفير جان كلود كوسران توجه من بيروت إلى المغرب للتباحث مع وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ومن ثم زيارة القاهرة قبل اتخاذ القرار النهائي بزيارتها ودوماً بعد طهران.
ومما يشجع ساركوزي على ذلك، ان واشنطن تزداد يوماً بعد يوم اقتناعاً بأن حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، سواء في شقه السوري أو الفلسطيني، هو المفتاح الذهبي لإقفال بيت المجانين الذي يصدر يومياً مزيداً من العنف الأسود المتصاعد في أشكاله وأنواعه.
مشكلة باريس، ومعها أوروبا وحتى واشنطن، ان دمشق تؤمن بأن التفاوض بالنار ووضع الجميع على حافة الهاوية هو السلاح الأمضى في كل المفاوضات. وطالما ان الحل لا يمكن أن يقوم بلا دمشق، فإن على الآخرين التكيّف مع هذا النهج والتعامل معه كما هو. والمجال مفتوح أمام دمشق في العراق وفلسطين ولبنان.
"بيت العنكبوت" الشرق أوسطي
سياسة ساركوزي تقوم على الاندفاع بسرعة بحيث لا يترك للطرف الآخر فرصة للرد سوى بردّة الفعل على فعله. وهذا النهج يفقد خصم ساركوزي أو محاوره، فرصة صياغة آلية خاصة به، وقد نجح ساركوزي حتى الآن في تنفيذ هذه الآلية وتحقيق أهدافه، ومنها الوصول إلى الرئاسة، لكن مشكلة ساركوزي وهو يعبر إلى "بيت العنكبوت" الشرق أوسطي، ان المواجهين له، سواء في دمشق أو في تل أبيب، يلعبون مع الوقت بصبر العابر للصحراء، ودمشق ترى ان التغيير لم يكتمل حتى الآن كما تريد، فإذا كانت انجيلا ميركل المستشارة الالمانية اثبتت انها أفضل من سلفها، وان برودي منفتح ومتعاون أكثر من برلسكوني، وان براون سيكون بلا شك أفضل لها من توني بلير في لندن، وان ساركوزي أفضل بكثير من شيراك، فلماذا لا تنتظر التغيير في واشنطن؟، ذلك انه كائناً مَن كان خليفة جورج بوش، فإنه لا شك سيكون بالنسبة لها أفضل منه بكثير. وحتى يقع ذلك التغيير، فإن باستطاعة دمشق الانتظار على حافة الهاوية، والتفاوض بالنا قتلا للوقت، خصوصاً انها دوماً تقايض من "كيس" غيرها.
السؤال أمام هذه المعادلة الدمشقية، هل يستمر نيكولا ساركوزي في اندفاعه، أم انه سيتوقف في اللحظة المناسبة، عندما يجد ان استقرار لبنان كله ومعه سلامة قوات "اليونيفيل" هما جزء من عملية التفاوض، وليسا كما يريد قاعدة مسلّم بها على طريق الحوار.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.