يجيد الفرنسيون فن التوازن بين القوى السياسية في فرنسا. دوماً يفاجئون في اختياراتهم، لا يستطيع أحد أن ينام معهم على حرير التوقعات أو الاستطلاعات. نتائج الدورة الأولى للانتخابات التشريعية، كانت تؤشر الى حصول الرئيس نيكولا ساركوزي على غالبية كاسحة في البرلمان، تجعل من كلمته الأولى والأخيرة. كان الاحتمال كبيراً في اقامة نوع من النظام الرئاسي على الطريقة الأميركية الى حد ما داخل "الجمهورية الخامسة". لكن الناخب الفرنسي اعتبر أنه اعطى ساركوزي الكثير ولا داعي لإعطائه المزيد. الفرنسي أيضاً متعلق بقراره المستقل ولا يريد أن يفقده، لمصلحة أحد حتى لو كان يحمل له وعوداً وآمالاً بالتغيير الكبير.
حزب الممتنعين، بقي الأكبر، بنسبة 40 في المئة. مع ذلك لم يحصل "التسونامي الأزرق"، حزب الغالبية الرئاسي حصل مع حلفائه على 314 مقعداً أي أقل مما حصل عليه الرئيس جاك شيراك بخمسة وأربعين مقعداً. والحزب الاشتراكي الذي كان يستعد لهزيمة مدوية مع توقعات بأنه لن يحصل على أكثر من 160 مقعداً مع احتمال كبير بحصوله على ستين مقعداً فقط، قلب النتائج وفاز مع حلفائه الخضر والحزب الشيوعي بـ227 مقعداً.
طبعاً هذه النتيجة لن تغيّر ألوان البرلمان. فالغالبية الرئاسية تملك غالبية مطلقة بدون نواب الوسط الذين انفصلوا عن فرنسوا بايرو المرشح الرئاسي الخائب.
لكن على الرئيس ساركوزي التعامل مع هذه النتيجة على قاعدة واضحة، وهي أن عليه أن يشرح سياسته وقراراته أكثر وأن يسمع الفرنسين أكثر، وأن يعمل بهدوء ورويّة أكثر. الناخب الفرنسي أنقذ ساركوزي مما واجهه فرنسوا ميتران عندما حصل التسونامي الأحمر غداة انتخابه فاجتاح في أيار 1981 البرلمان، ووجد نفسه وهو "الملك" تحت ضغوط مطالبته بـ"قطع رؤوس أخصامه". فكان على ميتران أن يناور ويحاور ويلتف على قوى عديدة لئلا يسقط في فَخ الانقطاع وقطع الرؤوس.
على ساركوزي الآن إجراء مراجعة عميقة في نهجه وسياسته. فقد خسر نحو ستين مقعداً لانه تسرّع في طرح رفع القيمة المضافة من 19 في المئة إلي 25 في المئة، ففتح الباب أمام الاشتراكيين ليقولوا: ساركوزي يريد أن نعمل أكثر لندفع أكثر وليس لنقبض أكثر. كما أن على ساركوزي، أن يتعامل مع سقوط آلان جوبيه وخروجه من الوزارة. صحيح أن هذه النهاية الشكسبيرية لجوبيه تريح ساركوزي من "الشيراكي الأفضل بين الشيراكيين"، لكنها تعقد مهمته. إلى جانب ذلك أمام ساركوزي تعقيدات جديدة في عملية الانفتاح التي قادها، والسؤال مَنْ من الاشتراكيين قادر الآن على الانضمام إلى فريق عمله بعدما تبين أن اليسار قادر على الحياة والصمود والتصدي.
خروج الحزب الاشتراكي بنصف هزيمة بدلاً من هزيمة كاسحة، لا يلغي غرقه في أزمة حقيقية.
وبداية الأزمة الصراع المتنامي بين سيغولين رويال من جهة و"فيلة" الحزب من جهة اخرى. ولا شك هذا الصراع، قد فتح جروحاً عميقة لدى روايال، احدها خلافها مع شريك حياتها ورئيس الحزب فرنسوا هولاند، فقد "صرفته من حياتها كما يصرف رئيس جمهورية رئيس وزرائه في فرنسا"، وهي وان كانت قد وضعت نقطة نهاية مع والد أولادها فإن العلاقة بينهما داخل الحزب ما زالت مفتوحة على كل المخاطر.
روايال، تريد رئاسة الحزب في العام 2008 تمهيداً لخوض الانتخابات الرئاسية عام 2012 عن الحزب. وهولاند لا يبدو مستعداً للدخول في حرب للخلافة سيكون وهو أولى ضحاياها المحتملين.
كما ان "فيلة" الحزب، وخصوصاً لوران فابيوس ودومينيك شتراوس خان لا يريدون التليم بهزيمتهم، ولذا كل واحد يريد أن يشدّ الحزب باتجاهه، وإذا كان شتراوس خان يريد أن يدفع الحزب الاشتراكي نحو الاتجاه الاجتماعي الديموقراطي فإن فابيوس يهدّد منذ الآن بحصول شرخ يسبب انقساماً نهائياً في الحزب بين توجهين يساري واجتماعي ديموقراطي وسطي.
بدوره الحزب الشيوعي عليه التعامل بجدية أكبر مع هزيمته، فهو للمرة الأولى لن يستطيع تشكيل كتلة حزبية من النواب له داخل البرلمان، إذ لم يحصل على 22 مقعداً. ولذلك فإن ماري بوفيه أمينة الحزب ستكون أولى الضحايا على طريق التغيير.
يبقى أن المتطرفين على جبهتي اليمين واليسار هم الخاسرون الكبار. فقد خرجوا من العُرس بلا حمص". فلا نواب لهم داخل البرلمان. وعليهم أن يعملوا من خارجه وفي هذا إضعاف لمواقعهم وأدوارهم.
في قلب هذه التحولات، فإن فرنسوا بايرو زعيم الوسط الذي شكل حزباً جديداً له على انقاض حزبه السابق الذي تفكك مع انضمام 22 نائباً إلى حزب الغالبية، عليه كما يقول أن "يعبر الصحراء بعد ان سبق له وعبرها" أي أن يتعامل مع هزيمته وبقائه خارج السلطة لخمس سنوات سيتقرر خلالها ما إذا كان قابلاً للحياة أم انه سيواجه ما سبق وأن واجهه جان بيار شوفنمان عندما خرج من الحزب الاشتراكي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.