هل من المبالغة في التفاؤل القول بأن بارقة من الأمل تبدو في أفق الأزمة في لبنان؟.
اذا أخذت الأوضاع كما هي وكما يعيشها يومياً اللبنانيون، فإن هذه البارقة ليست سوى نوع من البرق الذي يسبق العاصفة. لكن اذا جرت ملاحقة مسار اللقاءات والمباحثات العلنية والسرّية، فإن شيئاً من الواقعية السياسية يؤشر الى أن ما يجري حالياً لإخراج لبنان من أزمته الخانقة ليس مجرّد "طبخة بحص".
الصِدَف والمسارات
ومن الأهم الى المهم. والأهم أن ارادة عربية وإقليمية ودولية متضامنة ومتكافلة لمنع انزلاق لبنان نحو جحيم الحرب الأهلية، لأن لا أحد يريد التعامل من قريب أو بعيد مع حالة "عرقنة" للبنان الذي ما زال يعاني حالة "اللبننة الباردة". ومن الطبيعي أن لكل طرف أسبابه الخاصة ومنها:
* أن حدود لبنان "طرية" أو "رخوة" ولذلك قابلة للخَرق على عكس العراق.
* أن لبنان قابل في لحظة "عرقنة" للتحوّل الى قاعدة مفتوحة "للقاعدة" تهدّد مختلف الشواطئ وخصوصاً الشاطئ الشمالي لحوض البحر الأبيض المتوسط.
* أن وجود "اليونفيل" ومستقبلها يطرح مشكلة جدية، فإن هي لملمت معداتها وغادرت بسرعة، فإن دولها تكون قد شاركت بطريقة غير مباشرة في انتشار "القاعدة" ووقوفها لأول مرة أمام امتحان المواجهة مع اسرائيل بعد أن كثرت أخيراً الدعوات عبر قيادة "القاعدة" لشن الحرب ضد اسرائيل. وهي إن بقيت وواجهت، فإن على دول "اليونفيل" ومنها فرنسا واسبانيا تحمّل "ضريبة" هذه المواجهة التي نجحت بتجاوزها في العراق.
حتى لو لم تكن الصِدَف هي التي تضع مسارات السياسة الدولية، فإن الصدف وقّتت انتهاء العمليات العسكرية في "نهر البارد" في "رسالة لبنانية" واضحة على اجماع لبناني بمواجهة الارهاب مهما كان الثمن ثقيلاً على الجيش اللبناني. وزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز الى باريس ولقاؤه بالرئيس نيكولا ساركوزي هي تأكيد لاستمرار العلاقات استناداً الى الماضي والحاضر وتواصل مع المستقبل، ومن جهة أخرى الجولة المكوكية التي يقوم عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية بين الأفرقاء اللبنانيين، وانتهاء جولة الموفد الفرنسي جاك كلود كوسران في المنطقة بعد أن استكمل اتصالاته في طهران.
دمشق الغائب الكبير
ووسط كل هذه الاتصالات حول لبنان، تبدو دمشق هي الغائب الكبير على الرغم من أن حضورها في الأزمة بلبنان كبير جداً. فالمسار الفرنسي الذي اختاره المبعوث الفرنسي السفير جان كلود كوسران، كان يجب أن يمر في دمشق. لا بل ان دمشق كان يجب أن تشكل محطة رئيسية. وفي عملية تقديم علنية لهذا المسار جرى تسريب زيارة اللواء آصف شوكت الى باريس وتوجّهه منها الى واشنطن، وكأن الأوضاع عادت وتجاوزت نهائياً مرحلة جاك شيراك "الشخصانية" مع باريس، ومرحلة ما قبل مؤتمر بغداد مع واشنطن.
لكن يبدو ان اغتيال النائب الشهيد وليد عيدو ونجله خالد من جهة، وتطور العلاقات الايرانية بكل من باريس والرياض من جهة أخرى، قد أحدث تحولاً جدياً في المسار الجديد وليس مجرّد تدوير للزوايا كما يعمل البعض على تمريره.
ولا شك ان تولي طهران الاعلان عن أن السفير الفرنسي جان كلود كوسران "قد استكمل سلسلة مشاوراته مع البلدان المعنية بعد لقائه وزير الخارجية الايراني منوشهر متكي"، يعبر بقوة عن التحول الحاصل في الأدوار. فبعد أن كانت كل المسارات تمر في دمشق لتصل الى بيروت، فإنها أصبحت في معظمها تمر في طهران من دون أن تمر كلها في دمشق. ومن الأسباب التي لم تعد سراً، أن طهران تعتبر رسمياً "ان استقرار لبنان وأمنه مسألة في غاية الأهمية.. وأن طهران ترحّب بأي جهة تهدف الى التقريب بين اللبنانيين".
أما دمشق فإنها تبدو في وادٍ آخر، فهي تريد أكثر مما تستحق وتطالب بأكثر مما تستطيع، وتعمل على فرض ما لا يمكن لمختلف الأطراف على بلعه في المنطقة خصوصاً في لبنان.
إحداثيات التمايز
هذا التمايز الإيراني ـ السوري الذي يرفض الكثيرون قبول "احداثياته" اليومية هو الذي دفع باريس الى التسريب علناً وعلى لسان مسؤولين يرفضون الكشف عن أسمائهم "أن باريس مقتنعة بأن الحوار مع الايرانيين بشأن لبنان بنّاء ومفيد أكثر مما هو عليه مع دمشق". وهذا التوجه الجديد في ادارة الرئيس ساركوزي باتجاه دمشق، بعد أن كانت كل المؤشرات تشير الى العمل لفتح صفحة جديدة مع دمشق عبر الحوار معها، انما يعود الى ثابت قائم لم يتغيّر في السياسة الفرنسية، وهو أن استقرار لبنان وأمنه واستقلاله هي المحور الأول لأي مباحثات مع دمشق وهو ما ليس مضموناً حتى الآن.
ولا شك في ان موقف الرياض الثابت والحاسم من تطور الأوضاع في لبنان قد تقاطع بشكل أو بآخر مع باريس. فما يهم العاصمتان اليوم كما في المستقبل هو "منع وضع لبنان ومصيره في مهب الرياح". ولذلك تمحورت المباحثات بين الأمير سعود الفيصل ونظيره الوزير الفرنسي برنار كوشنير العائد من جولته في لبنان حول بلورة "القواسم المشتركة" بينهما.
لم يعد الحل لإخراج لبنان من الأزمة مجرد خطوط عامة متداخلة وألوان قوس القزح المختلطة. فالاتفاق قائم على أن المحكمة الدولية خرجت من "التداول اللبناني". وأن الملحّ مواجهة نفاد الوقت "أمام الاستحقاق الرئاسي وضرورة التفاهم حول اسم الرئيس الجديد".
إن مجرد طرح نقاط معينة للحل، يعني أن مرحلة صياغة مبادرة متكاملة قد بدأ العد العكسي لها. ولا شك ان زيارة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية الى باريس، قد تنتج تفاهماً فرنسياً ـ أميركياً حول مؤتمر الحوار المفروض عقده في باريس في منتصف الشهر المقبل. وأول خطوة في هذا وضع "سقف" معقول لبنود الحوار بين اللبنانيين، لأن المطلوب تحفيف عدد الحواجز وليس زيادتها. فالأطراف اللبنانية التي لم ينقطع الحوار في ما بينها طوال الحرب الأهلية، تعيش حالة من الانغلاق على ذاتها والتصحر في مواقفها. ولذلك يجب العمل بسرعة لإعادة هذا الحوار للخروج من هذه الحالة التي يتحول فيها الانغلاق على الخطاب الذاتي الى قنابل موقوتة لا بد أن تنفجر في داخلها وضد الآخرين. ولا شك أن عمرو موسى وإن كان لا يملك عصاً سحرية، إلا أنه يعمل حالياً على فتح الطرقات المسدودة بين المربعات الأمنية المغلقة على نفسها.
الحل ليس غداً. والقطوعات الأمنية لم تنته. فمَن اغتال النائب وليد عيدو وابنه خالد، في جعبته الكثير من المفاجآت القاتلة. لعل احداها تكسر ارادة اللبنانيين وتدفعهم الى الاستسلام. أو أنها تدفع باتجاه تحول دائري في مسارات تعامل باريس وواشنطن مع الأزمة في لبنان. والسباق مفتوح .
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.