كل يوم تفتح جبهة جديدة على لبنان. لم يعد اللبنانيون يعرفون ما يواجهون. حرباً داخلية، أم حرباً عربية ـ عربية، أم اقليمية ـ عربية أو دولية ـ اقليمية. أصبح لبنان مفتوحاً لجبهات قتال متعددة. ربما "أمّ الحروب" هي القائمة منذ 14 شباط 2005 مع دمشق. ولذلك ينادي البعض، بوجوب حلّ هذه العقدة وإنهاء هذه "الحرب" بسرعة، لكي تعود العلاقات إلى طبيعتها بين دمشق وبيروت، فيخرج لبنان من "عين الاعصار" سالماً، قادراً على مواجهة باقي "الحروب" موحّداً ومتضامناً ومتكافلاً.
اللبنانيون يريدون علاقات طبيعية وأخويّة بين بيروت ودمشق وخصوصاً مع الشعب السوري. اللبناني الذي يعترض على هذه الحتمية، إما مأخوذاً باليوميات المرّة ومفاعيلها ماضياً وحاضراً لهذه العلاقات، وإما لأنه لا يقرأ كيف تصيغ الجغرافيا سياسة الدول. كل ذلك يبقى موقتاً، وليس دائماً. المستقبل كلما كان طبيعياً يطوي مرارات الماضي، والجهل يداوى دائماً بالواقعية السياسية.
اختلاف الرؤى
المشكلة ليست في هذه الإرادة الطيبة لدى اللبنانيين والتي هي حكماً لدى السوريين المشكلة هي في اختلاف الرؤى لطبيعة العلاقات الرسمية، بين بيروت ودمشق. بين السلطات اللبنانية والسورية. والعقدة الصعبة في كل ذلك نابعة من التاريخ أساساً، ذلك ان دمشق لم تقتنع ولم تتقبل فصل لبنان عنها مع رسم خطوط سايكس ـ بيكو. وهي عندما سنحت لها الفرصة لتصيغ التاريخ من جديد، وتجعل اللبنانيين يتوقون للبقاء جسداً واحداً برأسين على مثال التوأم السيامي، تصرف بجبروت وتسلط ولم يرسل سوى أعتى الرجال جهاز أمنه بدلاً من أعقل مثقفيه وأغناهم. طبعاً قد يقول قائل في دمشق، "حالكم من حالنا". لكن المشكلة تبقى قائمة إذ ان للشقيق حق الاعتراض والرفض على تجاوز شقيقه لحقوقه وحدوده معاً، مهما بلغت وحدة التاريخ والجغرافيا والمصالح من قوّة.
حتى الآن، لا تزال دمشق تتوق إلى مرحلة 1976 ـ 2005، التي كانت مرحلة "الاستقرار الوحيدة منذ ثلاثمئة عام التي عاشها لبنان" كما قال الرئيس بشار الأسد للأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة بان كي مون في دمشق. ورغم ان في هذا القول توصيفاً لحال لم تكن قائمة لأن لبنان عاش كل أهوال الحرب الأهلية خلالها، فإن المسألة أيضاً هي في كون ذلك الاستقرار إذا كان استقراراً قد أنجز تحت بند "الهيمنة" الكاملة. وهنا مركز القضية كلها وهي ان اللبنانيين يريدون أرضية لهذه العلاقات تقوم على معادلة بسيطة جداً تقوم على استقرار حقيقي بدون هيمنة مع علاقات أخوية يحترم كل طرف حقوق الطرف الآخر وحقه في تسيير شؤونه بنفسه.
"مطرقة" القرارات الدولية
وهذه بداية وليست نهاية المشكلة، ذلك ان دمشق التي كانت "معزولة" ترى ان اللبنانيين وتحديداً قوى 14 آذار، قد شاركوا في استخدام "مطرقة" القرارات الدولية ضدّها. ولذلك عليهم الآن أن يدفعوا "الفاتورة" مضاعفة قبل أن تعفوا عنهم. وما هذا الموقف إلا لأن دمشق تشعر أو بالأحرى تعيش وكأن بينها وبين اعلان انتصارها على الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل صبر ربع ساعة فقط. وذلك لأن:
"ان الولايات المتحدة الأميركية تستعد لتنفيذ قرار الانسحاب من الاشتباك المباشر في العراق والتحصن في خمس قواعد ابتداء من آذار العام 2008". وأن الادارة الأميركية تعمل على توفير المناخ الواجب لتنفيذ ذلك".
ـ ان اسرائيل قد هزمت في العام 2006 بمساهمة سورية مباشرة. وانه حتى "عشر سنوات مقبلة لن تستطيع تل أبيب ان تقوم بحرب على محوري لبنان وسوريا".
ـ "ان مؤتمراً دولياً سيعقد في الخريف المقبل، وستكون دمشق في المركز من معالجة "الرزمة الكاملة" لأزمات المنطقة.
يبقى أن الأخطر من هذا كله، أن دمشق تجاهر علناً بعد أن كانت تسرب ذلك سراً، فالرئيس الأسد قال بصراحة لأمين عام الأمم المتحدة:"ان عدم الاستقرار الكبير سيتصاعد أكثر فأكثر (في لبنان) خصوصاً اذا انشئت المحكمة تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (الحديث جرى في دمشق في 24 نيسان الماضي)، هذا وبكل سهولة يمكن أن يؤدي الى نزاع قد يتحول الى حرب أهلية ويتسبب بانقسامات بين السنة والشيعة من المتوسط الى بحر قزوين". وما يجري في شمال لبنان يومياً مع ما يسمى بمنظمة "فتح الاسلام"، وما جرى في جنوب لبنان ضد القوات الاسبانية، وما يعيشه لبنان تحت سكين خطر الانقسام الداخلي الحاد اذا ما شكلت حكومة ثانية يضع لبنان في عين الاعصار لهذا التهديد.
المواجهة المفتوحة
البعض يرى في كل هذا النهج المواجه والشرس لدمشق، جزءاً من المواجهة المفتوحة، وحقاً شرعياً لها للدفاع عن وجودها. ومن الطبيعي ان المحارب يستخدم كل أسلحته وأوراقه لانقاذ نفسه أولاً ولليّ ذراع عدوه ثانياً، ولكسر ارادته وتحقيق الانتصار النهائي اذا أمكن. واذا ما أخذ هذا الدفاع بحرفيته فإن السؤال الطبيعي: ماذا عن حق اللبنانيين في هذه المواجهة الشرسة؟ هل يسلّمون ويقبلون بالحصول على الاستقرار مع الهيمنة أم يعملون دائماً من أجل الحصول على الاستقرار مع المساواة في الحقوق والواجبات؟
اللبنانيون هم الطرف الضعيف في هذه المواجهة خصوصاً وأن الانقسامات الخارجية تفوق الانقسامات المحلية حدة وتباعداً. وعندما يرون ان حكماً ناجزاً قد صدر ضد نصفهم على الأقل بأنهم "مكروهين" من السوريين (كما قال الرئيس الأسد عن كره السوريين لحركة 14 آذار) فإن مطالبتهم بأن تقوم دمشق الأقوى والأكبر، بمبادرة تطمئنهم، ضرورية وطبيعية، وطالما ان مثل هذه المبادرة لم تصدر، فإن الأرضية اللازمة لقيام علاقات طبيعية ما زالت مائعة لا يمكن البناء عليها.
ولو أرادت دمشق فعلاً استعادة لبنان "شقيقاً عزيزاً متضامناً متكافلاً معها"، فإن الخطوة الأولى كون في "مساعدته" فوراً في مواجهة هذا "الغول الارهابي" في شمال لبنان وفي جنوبه معاً. وهذا سهل جداً لا يتطلب سوى المساهمة في كشف بعض التفاصيل الأمنية التي تملكها عنه كما سبق لها وأن فعلت مع فرنسا ـ ساركوزي لكسب ودّها. أما ترك لبنان وحده في مواجهة هذا "الارهاب" كجزء من الحرب المفتوحة عليه لكسر ارادته، فإن ذلك قد يحقق نجاحاً ما في لحظة خوف ما، ولكن للأسف يكون "غول الارهاب" قد اكتملت قوته لكي يتمدد وليضرب كل من غضّ الطرف عنه أو غذّاه أو مرّره أو حتى دعمه.
بيروت بحاجة لدمشق، لكن أيضاً دمشق بحاجة لبيروت، وقوة هذه من قوة تلك. فلتفتح الأبواب نحو الحل، وليس لسكب مزيد من الزيت على النار المشتعلة، وطالما ان انشاء المحكمة الدولية لم ينقذ لبنان ولا اللبنانيين، فإن السرعة بإنشائها ستكون الحل وعندها لا يعود اتهام لبنان باللجوء الى "مطرقة" القرارات الدولية، حجة عليه؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.