لن يشهر أطراف اللقاء اللبناني في فرنسا، الأسلحة ضد بعضهم البعض، فقد سبق وأن التقوا في مدخل البرلمان المغلق، وتعانقوا وتمازحوا. لكن من المؤكد أن اللبنانيين سيغمدون خوفهم وقلقهم لأيام ثلاثة. واذا ما نجح اللقاء وفتح مساراً جديداً باتجاه الحل والتسوية، فإنهم سيزرعون الأمل أمام أبواب منازلهم المغلقة عليهم.
باريس ساركوزي، نجحت بداية في عقد هذا المؤتمر، لأنها احتاطت كثيراً في معالجته، من جهة ولأنها أبقت طموحاتها تحت سقف الواقع. ومن ذلك:
طموحات واقعية
* ان باريس التي تعرف جيداً خريطة التداخل اللبنانيالاقليميالدولي، حادثت وحاورت جميع "أصحاب المنازل في البيت اللبناني ودعتهم جميعاً ومنهم "حزب الله" الموضوع على لائحة المنظمات الارهابية في واشنطن". من جهة، وجالت على مختلف العواصم التي لها علاقة من قريب أو بعيد في الطوابق الثلاثة من "العمارة" التي وضعها أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى.
لكن هذا الغياب عن المكان لا يعني غياباً سياسياً عنه. فلا شك ان هذه العواصم ستكون حاضرة في متابعتها للتفاصيل الصغيرة لجلسات الحوار، مما سيمكنها من وضع مجسم واقعي وحقيقي لطبيعة الأطراف ولحقيقة خلافاتها ومدى علاقتها بأجندة خارجية.
اذا كانت المباحثات لم تشمل دمشق، كما كانت باريس تريد في البداية، فلأن دمشق ذهبت بعيداً في اعتبار التغيير الذي حصل في باريس انقلاباً شاملاً على "الشيراكية"، في حين ان "ثوابت" هذه السياسة لم تتغير مطلقاً وعمادها، أمن واستقرار لبنان". وجاء اغتيال النائب وليد عيدو ليقطع الشك باليقين، اذ اعتبرت باريس ان زيارة موفد فرنسي لدمشق في هذا التوقيت سيفسر خطأ وسيستمر في المكان الخطأ.
* ان المؤتمر، وان جمع مختلف الأطراف اللبنانية وفي فرنسا، فإنه "ليس مؤتمراً دولياً ولا اقليمياً والمعروف ان لتلك المؤتمرات قواعدها وشروطها ونتائجها التي يكون قد جرى الاتفاق عليها بين العواصم المعنية ولا يلزم سوى اعلانها فقط. ولذلك فإن مشاركة باريس بشخص وزير الخارجية برنار كوشنير ليس سوى "اعادة ربط خطوط الحوار بين هذه القوى اللبنانية".
* ان المؤتمر ليس استبدالاً لمؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في البرلمان اللبناني ولذلك ليس للمؤتمر برنامجاً ولا جدولاً مقيداً للحوار. كل ما في الأمر هو لكي تتحادث هذه القوى "بحريّة كاملة وتامة" بعيداً عن ضغوط يوميات الوقوف ميدانياً على "حافة الهاوية".
ان الحوار المفتوح وغير المجدوّل بين الأطراف المشاركة في المؤتمر، لا يعني انه سيكون مؤتمراً للتعارف ولا للحوار على كل شيء طلباً للحوار أو تضييعاً له في تفاصيل القضايا المتشابكة. فالقضايا الخلافية أصبحت معروفة. و"أم" هذه القضايا هي الانتخابات الرئاسية المقبلة وتشكيل حكومة وحدة وطنية تزرع الثقة أولاً وتفتح الباب نحو الحل ثانياً.
الحوار بين اللبنانيين
أن اللبنانيين وحدهم يتحاورون حول سبل الحل ووسائله. ولذلك فان زمن الحلول الجاهزة والمعلبة في العواصم الإقليمية والدولية ليس هو النهج ولا الحل. ولذلك. فان باريس رفضت عرضاً إيرانياً للاتفاق على حكومة الوحدة الوطنية ورئيس الجمهورية المقبل، وبالتالي تقديم هذا الاتفاق الجاهز للبنانيين المجتمعين في باريس أو مباشرة للقيادات الأساسية والرئيسية في بيروت.
هذا الموقف الفرنسي، لا يعني حكماً إلغاء التداخل القائم بين الداخل اللبناني والخارج، لأن في حصول ذلك إلغاء مسبقاً للدور الفرنسي القائم. لكن باريس ترى أن على اللبنانيين وحدهم العودة إلى الحوار المباشر وليس الجلوس معاً على طاولة "حوار الآخرين". ذلك أن أي حل جاهز ومعلب يفرض فرضاً على اللبنانيين، سيكون تأجيلاً للانفجار وليس إلغاء له ولأسبابه. ومع ذلك فان أي توافق لبناني ـ لبناني، لا بد من أن يحوز على توافق إقليمي ـ دولي مماثل، وكل ذلك بهدف ايقاف التلاعب بلبنان واللبنانيين بمصيره من قوى خارجية معروفة، ووضع لبنان على طريق استعادته للدولة ولمؤسساتها.
هذا المؤتمر الذي سيعقد على تلة تشرف على باريس تجاور نهر السين في منتصف هذا الشهر انما يعقد "لأن فرنسا كما يقول رئيس الوزراء فرنسوا فيون لن تستسلم لرؤية لبنان مهدداً بالحرب الأهلية مجدداً. والمؤتمر الذي سيعقد في سباق مع الزمن لانه يجري في فترة المئة يوم قبل الوصول إلى استحقاق الرئاسة والسقوط في الفراغ الدستوري، هو بداية ملحة وضرورية لمسار متحرك. ولذلك فإن عدم وجود "طموحات كبيرة" من عقده لا يعني مطلقاً أن نتيجته المتواضعة لن تكون مكسباً مهماً. ويكفي أن يفتح المؤتمر مساراً جدياً للحوار الفعلي والمنتج بين الأطراف المعنية في بيروت حتى يكون ناجحاً. فالمؤتمر كما تريده باريس، نوعاً من "إعادة تأهيل القوى اللبنانية للحوار بالنار" على قياس إعادة تأهيل الجنود بعد انقطاعهم عن المهمات الميدانية.
ماذا عن دمشق؟
نجاح المؤتمر لا ينهي سوى جانباً من الأزمة، ذلك مهما جرى فإن أحداً لا يستطيع نفي حالة قائمة وهي "ان دمشق جزءاً أساسياً من المشكلة". وان دمشق تقود بطريقة أو بأخرى "اللعبة" لأنها تملك الوسائل والقرار. والعقدة ان الحوار معها حتى من جانب أوروبا غير منتج وأن عزلها أيضاً غير منتج. وما هذا إلا لأن دمشق تريد "حزمة" من المطالب المتداخلة والمتكاملة. وأول بند في هذه الحزمة كما يقول المستشار السياسي لقوات "اليونيفيل" جوزيب كاسيني هو "دفن المحكمة ذات الطابع الدولي كشرط أساسي للتهدئة"، وباختصار فإن دمشق التي لا تستطيع الآن إلغاء قرار إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي، تريد إلغاء المحاكمة، علماً ان المحقق الدولي سيرج براميرتز يستعد لاصدار تقريره بعد أقل من أسبوعين، وتحديداً غداة انتهاء أعمال المؤتمر في فرنسا، ولا شك ان دمشق لن تتوقف عن المقايضة في لبنان وحوله، متى نجحت في فتح باب المقايضة، تحت ظلال الخوف.
هذا المؤتمر مهم جداً، لأنه مهما بالغ البعض من الأطراف المشارك فيه من نفي إمساكه بالقرار وهو حقيقي، إلا انه لا بد سيكشف شيئاً أساسياً من حقيقة مواقف مَن يمثلهم، وعندها فإن باريس تستطيع أن ترسم بوضوح "خريطة طريق" للتحرك باتجاه المساهمة في إنقاذ لبنان، طالما ان قراراً رسمياً قد اتخذته وأعلنته بأنها "لن تقف متفرجة أمام ما يحدث".
وهو في الواقع إذا ما استمر على هذا النهج عملية انتحار جماعية للبنانيين تماثل "الماسادا" اليهودية لكن من دون أن ينجحوا في إثبات حقهم بالحياة الحرة والكريمة حاضراً ومستقبلاً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.