أمام المجتمعين الممثلين لمختلف القوى السياسية اللبنانية في الضاحية الباريسية، رسالة إنذار واضحة مع إشعار بالوصول، صادرة عن تقرير سيرج براميرتس رئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وباقي الجرائم التي وقعت والتي ستقع على الأرجح. هذا الانذار موجود ومثبت في البند 1528 من التقرير الجديد الذي نشر أمس، والذي نصه:
تظهر التحليلات الأمنية التي أجرتها اللجنة بالتعاون مع عدد من المنظمات أن النظرة المستقبلية للأمن في لبنان خلال الأشهر المقبلة تبدو قاتمة. ويعود السبب إلى التأثيرات السلبية جراء المأزق السياسي الراهن بين الأكثرية والمعارضة في لبنان وتدهور الوضع الأمني في المنطقة.
نعتبر فترة إجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية المتوقعة خلال السنة الجارية أحد أسباب التوتر المتزايد الذي قد يؤدي لاحقاً إلى أحداث أمنية محتملة. فضلاً عن ذلك ليس من الواضح كيف سيكون وقع إنشاء المحكمة الدولية في لبنان على صعيد الوضع الأمني وبالنسبة إلى اللجنة.
الرسالة الأمنية
هذا النص وحده كافٍ. لا داعي للذهاب بعيداً أو عميقاً في باقي البنود، فالصورة تكاد تكون واضحة بعد أن تم تفكيك معظم خطوطها وفرز معظم ألوانها. في هذا البند ما يكفي لكي ينفتح المتحاورون في الضاحية الباريسية بعضهم على بعض.
هذا البند دعوة تحت النار للحوار، للخروج من المربعات الأمنية التي تكاد تخنق العقل بعد أن كبل الخطر الأمني الحركة.
وما لم ينجح المجتمعون مع قوة الدفع الفرنسية للوزير برنار كوشنير والسفير جان كلود كوسران، في فك عقدة السنتهم وإخراجها من الكلام المعلب والمكعب الذي لا يخرق ولا يدع مجالاً لتسرب رياح الأمل حتى الآن، فإن على اللبنانيين مواجهة المرحلة القادمة القاتمة عراة بائسين محبطين، من مستقبلهم كله مع هذه القوى أو بدونها.
أمام اللبنانيين ودوماً استناداً إلى البند 1528 من تقرير براميرتس، استحقاقات لا بد من مواجهتها بشجاعة وصبر. أولى هذه الاستحقاقات والتي هي فعلاً أم الاستحقاقات الانتخابات الرئاسية، التي كلما ارتفعت حرارتها،ازدادت المخاطر. ذلك ان أي خلل في تنفيذ هذا الاستحقاق لا بد أن يشكل عامل الانفجار الذاتي.
طبعاً ليس مطلوباً ولانه ليس بإمكانهم أصلاً حل هذا الاستحقاق، والخروج باسم الرئيس الجديد للجمهورية، لكن مطلوب من هؤلاء المجتمعين، ان يتفقوا على صيغة لمواجهة هذا الاستحقاق لتقديمه إلى رؤسائهم وزعاماتهم من اللبنانيين على أمل ان تنتج المعادلة الكيميائية للداخل اللبناني بالخارج الاقليمي والدولي المعني بالأزمة اللبنانية صيغة الحل النهائية. وهنا لا يزايد أحد على أحد حول أهمية ضرورة المزج بين الداخل والخارج، وعلاقة أي طرف بذاك الطرف. فالمعادلة قائمة منذ اجيال التغير الوحيد الذي حصل ويحصل هو في طبيعة الاحجام وأوزانها.
المشكلة الثانية وهي إنشاء المحكمة الدولية، وهي تعني أساساً الجهة أو الأطراف المتضررة منها. فاللبنانيون يكسبون، لانه إذا لم ينتج إقرار المحكمة تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة توقفاً للجرائم، فان إنشاء المحكمة سيدق لهذه الأطراف ساعة العدالة للمرة الأخيرة.
وإذا كانت الجهات الرسمية اللبنانية معنية بحماية أعضاء لجنة التحقيق اليوم وغداً القضاة اللبنانيين المشاركين فإن المجتمع الدولي كله معني بهذه المسألة وعليه ان يجد الصيغة والآلية والوسائل لحماية المحكمة وأعضائها.
رياح العرقنة
أخطر من ذلك كله، ان رياح "العرقنة" الساخنة تتمدد في لبنان كما يقول خافيير سولانا. ويبدو أن العملية التي جرت ضد الوحدة الاسبانية من قوات اليونيفيل في الجنوب اللبناني، سمحت للمجموعة التي قامت بها بتقديم أوراق اعتمادها لدى القاعدة، خصوصاً بعد مباركة الدكتور أيمن الظواهري لها. ومما يزيد من خطورة الأوضاع هذا الخلط في الاحداث من الشمال إلى الجنوب مما تقوم به "عصابة" العبسي ومن يساعدها ويمدها بالسلاح والرجال وكل عوامل "الصمود" التي ليست سوى عوامل اضافية لهز الأمن والاستقرار في لبنان. ودوماً في المسار نفسه الذي قدمه البند 1528 من تقرير براميرتس.
إذ مهما حسنت النوايا، لا يمكن الفصل بين كل هذه الاحداث والتعامل معها على أساس انها منعزلة بعضها عن البعض الاخر.
من حق اللبنانيين، أن يخافوا ويتقوقعوا وهم يرون انفسهم وكأنهم "طريدة" ملاحقة من "صيادين" لا يعرفون الرحمة، ولذلك من حقهم ان يطالبوا المجتمعين في الضاحية الباريسية اليوم، والقيادات الاخرى المحاصرة في المربعات الأمنية، أن يقفوا كلهم وقفة واحدة مع أنفسهم وضمائرهم ليراجعوا ما حصل وما سيحصل لعل ذلك يساهم في إنقاذ لبنان.
تقرير براميرتس والبند 1528 شكّلا "رسالة" واضحة للبنانيين تتعلق بمستقبلهم. ويبدو ان "علبة البريد" اللبنانية، مفتوحة لتلقي المزيد من "الرسائل الملغومة" بالاستحقاقات والمواعيد المستقبلية. فقد سارعت دمشق إلى الكشف أولاً ان موسكو هي التي "منعتها" عن الدخول في الحرب إلى جانب المقاومة وذلك في الذكرى الأولى لحرب 12 تموز. طبعاً دمشق تعرف كيف تقايض هذا الموقف من "حزب الله".
لكن الأهم من هذا كله، المعلومات التي يتم تسريبها يومياً مؤخراً وبشكل مستمر، ان دمشق قررت "استخدام جميع الوسائل لاستعادة الجولان". والمعنى واضح أي بما فيها الحرب طالما ان المفاوضات ممنوعة عليها. وزيادة في التأكيد، فإنّ دمشق سرّبت وتسرّب أنها أعادت تشكيل الجيش السوري كله لكي يجمع بين صيغة الجيوش الكلاسيكية وصيغة مجموعات المقاومة في لبنان، للدخول في حرب واسعة ضدّ إسرائيل.
تحرير أم تفاوض؟
طبعاً لا شيء يسعد العرب وتحديداً اللبنانيين أكثر من أن تعود دمشق "قلب العروبة النابض"، وأن تكون بوابة هذه العودة استيقاظة "أهل الكهف" في الجولان من نومهم العميق الذي طال أربعة عقود.
رغم هذا الفرح، فإن هذا الإعلان يزيد من قلق اللبنانيين على حالهم ومستقبلهم. فإذا كانت دمشق ترفع رصيدها للتفاوض مع واشنطن وتل أبيب بالطرق على باب التفاوض "بمطرقة" نتائج حرب 12 تموز العسكرية فلا بد أن يتم في بعض أجزائه وتفاصيله على حساب اللبنانيين وأولهم "حزب الله" والمقاومة لأن دمشق لم تكتم استعدادها ولا عرض خبراتها في كيفية التعامل معهما بما يرضي الأطراف الأخرى إذ لدى دمشق كامل الخبرة والتجربة لتقديم "رأس" "حزب الله" لواشنطن مع المحافظة دوماً على تقديم نفسها بالحامية الأولى والحقيقية لهما.
أما إذا كانت دمشق تنوي فعلاً الذهاب إلى المواجهة لأن التفاوض صعب جداً، والتحصن في مواقفها مكلف جداً. فإنّ على اللبنانيين التعامل مع وقائع مثل هذه الحرب ونتائجها وكأنها على أرضهم وربما على أرضهم خصوصاً في البقاع. والسؤال الكبير المخيف أمام اللبنانيين هو: هل يدخل "حزب الله" الحرب إلى جانب دمشق، حتى لو حاولت طهران إبعاده عن هذا الخطر، مستكملاً بذلك ما فعله في 12 تموز عندما صادر قرار الحرب كاملاً من اللبنانيين والسلطات اللبنانية الرسمية وطالبهم بالشراكة الكاملة بالنتائج؟
خطر مواجهة اقليمية واقعي، وهو خطير جداً، لأن نتائجها في ظل التشابك الاقليمي والدولي والضعف العربي مكلف جداً، وهي سترسم لعقود خريطة المنطقة، وفي قلب كل هذه العواصف والأعاصير والمتغيرات الناتجة عنها، يبدو لبنان وحيداً تتجاذبه الأقدار والأخطار واقفاً بين "سندان" التطورات الأمنية "القاتمة"، و"مطرقة" التهديدات السورية بتحرير الجولان.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.