الرئيس نيكولا ساركوزي، ربح "نقطة" ثمينة مع بداية الدوري العام للسياسة الخارجية الفرنسية الذي انطلق مع بداية ولايته الرئاسية. طبعاً، الرئيس الفرنسي الذي يوصف بأنه "الرجل المستعجل دائماً" كان يفضل مع وزير خارجيته الاشتراكي ان يربح ثلاث نقاط تضعه في موقع قوة، مع نهاية مؤتمر سان كلو الذي ضم الصف الثاني لقيادات القوى والأحزاب اللبنانية.
منذ البداية، وضعت الديبلوماسية الفرنسية سقفاً منخفضاً لتوقعاتها وآمالها من مثل هكذا مؤتمر، خصوصاً وأن الفريق السياسي والديبلوماسي الفرنسي المشكّل من وزير الخارجية برنار كوشنير والموفد جان كلود كوسران والسفير إيمييه، هم من العارفين والخبراء بشؤون وشجون الحالة اللبنانية وتداخلها مع كل تعقيدات واشتباكات الوضع الاقليمي والدولي. ولذلك أحدث تسجيل هذه "النقطة" كسباً مهماً يمكن للديبلوماسية الفرنسية التأسيس عليها، خصوصاً وأن طموحات الرئيس ساركوزي تبدو عريضة وغنية.
النقطة الثمينة
المؤتمر بدأ بين الفرقاء اللبنانيين وبمشاركة من بعض ممثلي المجتمع الدولي بلقاء وانتهى كما تؤشر تفاصيله إلى انطلاقة لمبادرة يتم العمل لها، وهذا التحول نتج لأن الديبلوماسية الفرنسية:
* أدركت منذ طرحت فكرة الحوار بين هذه القوى اللبنانية، أن جمعهم حول طاولة واحدة بعيداً عن المربعات الأمنية التي تحصنوا فيها وحوصروا بها، هو انجاز خصوصاً اذا ما أعادت كل هذه القوى التعرّف على بعضها البعض.
* ان الخطوة الأولى لهذا المسار الطويل والصعب هي لتحقيق "نجاح محدود هدفه إحداث اختراق ضاغط لإبطاء عبور لبنان حالياً نحو الفوضى الأمنية والدستورية".
* عملت الديبلوماسية الفرنسية للتحرك بسرعة في جميع الاتجاهات العربية والاقليمية تقريباً، للحصول على أضواء خضر لتحركها دون عقد ولا كبرياء معروف عنها، وذلك لتوسيع مظلة الحماية الاقليمية والدولية للقاء وفيما بعد للمبادرة متى تبلورت.
* لم تضع في نهاية المؤتمر آلية محددة، لكنها وضعت أجندة علنية لحركتها، فالسفير كوسران سيتولى الحوار في بيروت استكمالاً لاجواء سيل سان كلو، والوزير كوشنير سيحضر في نهاية الشهر لاستكمال بلورة الخطوات المقبلة.
* ترك كل هذا النشاط مفتوحاً على حركة أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى خصوصاً وأن الخطوة الثانية ستبدأ من حيث انتهى موسى.
* هذا النجاح المحدود للديبلوماسية الفرنسية، لن يبقى يتيماً، الرئيس ساركوزي سيعمل للتأسيس عليه، لأنه يريد إثبات أهليته لتحقيق نجاحات مهمة في السياسة الخارجية لبلاده توازي النجاحات التي حققتها في الداخل، على قاعدة أن النيو ـ ديغولية لا تقلّ حضوراً وفعالية من السياسة الديغولية لمن سبقه من الرؤساء، ولهذا فإن الجهود الفرنسية مستمرة وفي سباق مع الزمن.
وهذا السباق يرتكز على تحرك من "ترويكا" مشكلة من فرنسا والرياض وطهران.
العلاقة القديمة
وإذا كانت العلاقة بين الرياض وباريس قديمة ومتينة وليست بحاجة إلى اختبارات، فإن العلاقة بين باريس وطهران ما زالت في طور الاختبار والتقدم خطوة خطوة وبحذر شديد. في حين أن التفاهم الإيراني ـ السعودي قد تجاوز بخطوات عديدة مرحلة الاختبار إلى حالة التفهم والتفاهم على مجمل القضايا المشتركة مع إبقاء هامش واضح يضمن لكليهما حرية الحركة والمناورة وحتى التراجع في اللحظة التي يشعر فيها أي طرف وخصوصاً الرياض ان استثمار الحركة يتم بعيداً عن الهدف المشترك والذي هو في حالة لبنان ضمان أمنه واستقراره، وعدم تركه ساحة مفتوحة أمام الرياح الساخنة.
ولا شك أن باريس التي أيقنت أخيراً ان إيران لا ترغب في زعزعة الوضع اللبناني كما قال كوشنير نفسه، قدمت لطهران "هدية" ثمينة وهي "الاعتراف العلني والواضح بالدور الإيراني في لبنان" دون أن يصل هذا الاعتراف إلى حد صياغته في وثيقة حل مجدولة تتناول الرئاسة والحكومة. وهذا التحفظ الفرنسي يعود إلى أن باريس تعرف أيضاً أن لاعبين آخرين لهم كلمتهم ونفوذهم، وأنه مهما وصل هذا التعاون ينبغي ألا يتم تناسي الموقف الأميركي من طهران أساساً، ومن حضوره وفاعليته أيضاً في لبنان.
وأمام هذه العقدة، فلا شك أن باريس ستتحادث وتتحاور مع واشنطن حول أدق التفاصيل المتعلقة بإدارة الوضع والتحضير لصياغة مبادرة ما تنقذ لبنان. وبدون التفاهم مع واشنطن لا يمكن ـ ومن باب الواقعية السياسية ـ التقدم خطوة ولو صغيرة فمسار الحل لا يمكن ان يكون أحادياً في لبنان مهما بلغ نفوذ هذه القوة، فالتعددية اللبنانية زائد تعددية الأطراف الخارجية من إقليمية ودولية، تفرض الحل تفاهماً يصل إلى حدود الشراكة بين هذه القوى الخارجية.
عودة كوشنير
برنار كوشنير عائد إلى لبنان "مفوضاً" من جميع القوى التي اجتمعت في الضاحية الباريسية لمتابعة تحركه لاستكمال سان كلو ـ 1 ربما بسان كلو ـ 2 وصولاً إلى فتح بيروت أمام الحل ويبدو أن "حزب الله" الذي أبدى حماسته لمتابعة هذه الجهود يؤكد على "ان ديناميكية الحركة الفرنسية مهمّة جداً لتحقيق النجاح"، وما كان هذا ليتم لولا عملية تبادل "الهدايا" بين باريس والحزب. فالأولى قدمت "هدية" ثمينة جداً خصوصاً وأنها جاءت مع بداية ساركوزي لولايته الرئاسية، وهذه "الهدية" هي في الالتزام بأن "حزب الله" ليس منظمة ارهابية على جدول المنظمات الإرهابية للاتحاد الأوروبي. وبدوره فإن "حزب الله" قدم "هدية" ثمينة ـ رغم النفي العلني لها لضرورات تفاوضية ـ لباريس تتعلق بأن الأسيرين الإسرائيليين "ما زالا على قيد الحياة".
هذا "الغزل" الفرنسي و"حزب الله" بعد الصدمة الكهربائية التي أحدثها ساركوزي بتصريحه المتعلق "بالدور الإرهابي لسلاح "حزب الله"، ما كان ليتم لو لم يتحقق هذا التفاهم العلني بين طهران وباريس، فالعلاقات بين هذه الأطراف الثلاثة متداخلة جداً.
باريس لن تترك باباً إلا وستطرقه لإخراج لبنان من هذا الوضع "الخطير جداً". وباريس ستطرق باب دمشق عاجلاً أم آجلاً، لأنها تعرف جيداً قدرتها على "تخريب الحل" الذي لا دور لها فيه ولا مصلحة لها تتحقق منه. ولكن باريس وهي تعمل لذلك، إنما على قاعدة واضحة وهي "خدمة السلام في لبنان وسيادته واستقلاله".
جهود باريس مستمرة مع كل العواصم التي تريد الحل في لبنان. لكن موعد لبنان مع الحل ليس غداً. والدليل ان وزير الخارجية الفرنسي كوشنير لن يأتي قبل نهاية الشهر الحالي، وبالتالي فإن على اللبنانيين الذين ذاقوا الأمرّين طوال العامين الأخيرين ان يصبروا أيضاً أكثر من مئة يوم مليئة بالألغام.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.