8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

بوش يعود إلى "ينابيع" الأزمة وساركوزي يحجز مقعداً له في مسار التسوية

العودة إلى "الينابيع" هذا أهم ما في دعوة الرئيس جورج بوش لعقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط لأن أصل المشكلة هو النزاع العربي ـ الاسرائيلي. كان باستطاعة الرئيس الأميركي أن يبدأ من هنا قبل سنوات ليجنب منطقة الشرق الأوسط مزيداً من الدمار والدماء والتفكك والتحول إلى "مصنع" للعنف الأسود المتطور يومياً من جهة، ومن جهة أخرى أن يحمي الولايات المتحدة الأميركية من هزيمة كبيرة في العراق اليوم وربما في أفغانستان وباكستان غداً، واضعاً نفسه بذلك في خانة أسوأ رؤساء الولايات المتحدة الأميركية منذ الاستقلال. لكن بوش الذي اعتبر نفسه على اتصال وتوجيه مباشر مع الله كما أشار إلى ذلك شخصياً، فضل حماية اسرائيل من تفتيت العراق، ونشر الفوضى البناءة على مساحة المنطقة، تمهيداً لبناء منطقة الشرق الأوسط الجديد.
عوامل التدمير الذاتي
لا فائدة الآن من الافاضة في عقم هذه السياسة واحتوائها عوامل التدمير الذاتي فيها، فلكل بداية نهاية، والعودة إلى الينابيع بداية نهايتها. المهم ماذا سيحدث بعد الآن؟ وأين موقع لبنان من هذه السياسة الجديدة ـ القديمة؟.
ترك بوش في دعوته للمؤتمر نوعاً من الالتباس القابل لمزيد من التعقيد أو للحل ربطاً بالتطورات والتغيرات، فالرئيس الأميركي علق أسماء الدول المشاركة في المؤتمر على صيغة "الجيران" للفلسطينيين واسرائيل. والمعنى هنا ليس فقط في قلب "الشاعر". فالجغرافيا واضحة جداً و"الجيران" معروفون جيداً ومن ضمنهم سوريا، وربما امتداداً إلى ايران. والسؤال هنا: كيف ومتى يتم توضيح هذا الالتباس بتسمية كافة الدول المشاركة علناً ورسمياً؟.
لا شك ان الأشهر الباقية من هذا العام خطيرة وهي حكماً مليئة بالأحداث والتطورات الحاسمة، ولم يعد سراً ان المنطقة كلها تقف الآن أمام مفترق طرق مصيري يقع الفصل فيه بين الحرب والفوضى الشاملة والسلام، وربما بالمحصلة النهائية نوعاً من التهدئة على صعد الدول لإنجاز مواجهة جماعية لـ"تسونامي" العنف الأسود للقاعدة وأخواتها ومتفرعاتها.
ويبدو من خلال المقارنة الهادئة والواقعية لخطابي الرئيسين الأميركي والسوري، ان المفاوضات السرية المباشرة مع الطرف الثالث المعني وهو اسرائيل أو بالواسطة قد وصلت إلى مرحلة توضح النسخة السلبية للصورة، ولذلك وجب التوقف للحظة يتم خلالها اعادة طرح الشروط والشروط المضادة توصلاً للاتفاق أو للافتراق. ومن طبيعة هذه العملية ان لا تكون المفاوضات مقتصرة على ملف واحد حتى ولو كان الجولان، وإنما حول "حزمة" متكاملة، وبالتضامن والتكافل مع الحلفاء أو الأعوان على السواء.
الأطراف المأزومة
كل طرف من الأطراف المعنية ابتداء من واشنطن وانتهاء بطهران مروراً بدمشق سيحاول وسيعمل لشراء الوقت دفعاً للاستحقاقات المستعجلة والتي حكماً يريد تجنب دفعها سواء قبل الجلوس على طاولة المفاوضات الواسعة أو خلالها وبعدها. وليس خافياً ان كل القوى مأزومة. فالرئيس جورج بوش مأزوم وهو في سباق مع الوقت ويعمل على "شرائه" بكل ما يستطيع لأن "الهزيمة" في العراق تلاحقه بالتزامن مع اقتراب نهاية ولايته الرئاسية.
وطهران بدورها مأزومة لأنها لا تستطيع ان تتنفس قبل خروج بوش من البيت الأبيض دون أن يضغط على الزر الأحمر وتبدأ الحرب ضدها. ولأن طهران مدركة جيداً ان خطر الحرب ضدها سيبقى قائماً حتى اللحظة الأخيرة، فإنها تسعى بكل جهدها للالتفاف على أي خطر للمواجهة، بالمناورة حيناً وبتقديم تنازل هنا أو هناك. فطهران التي أبدت استعدادها للاجتماع مرة أخرى حول العراق في العراق نفسه مع واشنطن فتحت في الوقت نفسه أبواب مشاريعها النووية امام الدكتور البرادعي إلى حوالي النصف حتى اذا قدم لها طموحها وقلقها قابلته بانفتاح أوسع.
والايرانيون الذين لم يستبعدوا لحظة واحدة امكانية هروب بوش وحتى اسرائيل إلى الأمام وتفجير المواجهة معها تستعد لها بقوة، خصوصاً وأن "الحرب الخفية" والاستخباراتية مع الأميركيين قائمة على قدم وساق. كما ان الايرانيين يسربون معرفتهم بمحاولة الأميركيين اللعب على الجبهة الداخلية باتجاه فرقعتها لفتح "ثغرة" تسمح لمجموعة عسكرية من الحرس الثوري وبالشراكة مع الجيش للقيام بانقلاب عسكري يقلب الطاولة.
بدورها، فإن دمشق التي فاوضت سراً طوال السنوات الثلاث الأخيرة مع الاسرائيليين سراً وعلانية مباشرة وعبر الوسطاء، وضعت "سقفاً عالياً" للتفاوض الرسمي وهو يتضمن مطلباً شرعيا ومشروعاً من اسرائيل وهو الانسحاب من الجولان مقابل التفاهم على حيثيات "الترتيبات الأمنية والعلاقات" أثناء المفاوضات، وفي الوقت نفسه فإن الرئيس الأسد وهو يعرض ذلك على الاسرائيليين قدم إلى واشنطن عرضاً آخر للتفاوض المباشر حول باقي "الحزمة" الشرق أوسطية سواء حول لبنان أو فلسطين حيث يشعر الآن بقوة اضافية دفعته لتوجيه دعوة "للأشقاء الفلسطنيين للاتفاق على مشروع وطني في مواجهة الاحتلال". وهذه الدعوة تضعه في قلب صياغة المشروع الفلسطيني الجديد على غرار ما يطالب به في لبنان يومياً من حل توافقي يعطيه حكماً دوراً فاعلاً عبر المعارضة اللبنانية التي يتحكم في الكثير من "مفاتيحها".
مطلوب دور لفرنسا
فرنسا الساركوزية، تريد ان يكون لها "قرص في عرس" الشرق الأوسط حتى ولو كان ثمنه غالياً. والغلاء هنا لن يكون ضرورياً ببذل الأرواح، وإنما في احداث تغيير مهم "لدفة سفينة ديبلوماسيتها" انسجاماً مع التحولات والضرورات وأيضاً مع شروط الواقعية السياسية. وليس خافياً ان الرئيس نيكولا ساركوزي يريد ان يكون له دور فاعل في السياسة الدولية بعد ان ضمن وضعه داخلياً، ولأنه في فكره ونهجه قريب جداً من واشنطن فإنه لا يجد حرجاً في التقاطع مع سياستها.
ومن الطبيعي أن يسعد ساركوزي بتوجه بوش نحو عقد مؤتمر جديد للسلام في الشرق الأوسط، لأن ذلك يفتح له الباب أمام الحصول على مقعد أساسي فيه. أما ثمن هذه السياسة، متابعة العمل في الملفات الساخنة لكن مع تنسيق عميق وحقيقي مع واشنطن. ومن ذلك فإن جان كلود كوسران الموفد الفرنسي إلى المنطقة لمعالجة الملف اللبناني، لا بد ان يحيط بموقف دمشق من "حزمة" الملفات في المنطقة وهو يعالج الملف اللبناني معها. وبطبيعة الحال فإن واشنطن لا بد ان تطلع على نتيجة هذه المباحثات وأن يكون لها موقف حاسم من دمشق. وبهذا فإن باريس وهي تعمل لإنقاذ لبنان، تكون قد فتحت الباب باتجاه دمشق لمصلحة واشنطن المشتركة معها.
يبقى لبنان الواقف في قلب دائرة النار تتجاذبه مختلف القوى الداخلية والخارجية معاً، من حظ لبنان انه في هذه المحنة ليس "يتيماً". لكن من قدره والأصح من فعل يدي القوى السياسية المجتمعة التي لم يظهر لديها أي اشراقة لرؤى سياسية واقعية ومستقبلية وبحجم التحديات التي تواجهها، أن يشعر الآن بعمق التحولات وأخطارها على خياراته.
هذه العودة إلى الينابيع، وهي تلوح بالسلام تنذر بالخطر. فالفشل في الوصول إلى نهاية هذا المسار بنجاح يعني مغامرة عسكرية ضخمة قد يكون هدفها تحسين كل طرف بما فيها واشنطن لمواقعه أو شروط تفاوضه، والمشكلة ان طهران في قلب هذا الخطر، ودمشق ليست بعيدة عن القفز إلى الضفة الأخرى وهي خيار الحرب، لأنها اذا وجدت انها ستخسر كل شيء فلن يكون لديها اكثر مما ستخسره لتخسره، ولذلك لا يجب ابعاد اي احتمال حتى لا يقع لبنان ضحية المفاجأة فالفاجعة، واذا كانت العجلة من الشيطان، فإن اللبنانيين مدعوون هذه المرة إلى العجلة في الاتفاق لأن به السلامة.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00