8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

دمشق تريد الفصل بين تطبيع علاقاتها مع باريس ولبنان وكوسران يطالبها "بدور بنّاء" وإلا "فالنافذة" لن تفتح

فرنسا لن تبيع ولن تقايض لبنان. هذا الموقف هو من ثوابت السياسة الفرنسية في المنطقة. وهو ليس نوعاً من العشق، ولا هو نتاج المصالح المشتركة فقط. انه مزيج متكامل من العلاقات التاريخية والثقافية والسياسية العامة وبلا شك من المصالح.
هذه هي الخريطة الواقعية للعلاقات الفرنسية ­اللبنانية. لكن كلما تم الاقتراب منها، توضحت تضاريسها بواقعيتها وعلى حقيقتها. ومن الطبيعي جداً، أن تكون البداية من التغيير الذي حصل في باريس. وبدايته ان الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي مختلف جداً عن سلفه الرئيس جاك شيراك. لكل واحد شخصيته التي لا بد أن تترك بصماتها بقوة على كل ما تلمسه. وأيضاً لكل منهما نهجه وأسلوبه ورؤيته السياسية.
لكن تبقى مصلحة فرنسا فوق كل هذه التباينات. ومصلحة فرنسا العليا في الشرق الأوسط اليوم، ان يعود لبنان "ويبقى حراً سيداً مستقلاً". باختصار شديد فرنسا كانت وما زالت مهتمة "بمصير لبنان"، بعد هذا الثابت الأساسي تأتي المتغيرات.
الدور والمصالح
الرئيس نيكولا ساركوزي يتحرك باتجاه أي ملف سياسي يرى لفرنسا فيه حضوراً منتجاً على الصعيدين السياسي والاقتصادي. ففرنسا لا تستطيع ان تعيش بلا دور. وهي ليست من الدول الغائبة عن المسرح، وانما هي من الدول التي تعمل على اغناء دورها كفرنسا أولاً وكمحرك أساسي في الاتحاد الأوروبي. يبقى الى جانب ذلك وهو أساسي كيفية تعاملها وتفاهمها مع الولايات المتحدة الأميركية في اطار "لعبة الأمم" من جهة، وفي دائرة "المصالح التي تكون أحياناً مغلقة وفي أحيان أخرى مفتوحة على باقي الدوائر.
جان كلود كوسران، هو "القطار" المتحرك لسياسة ساركوزي في المنطقة. وهذا الدور لأنه على قياس أبرز الخبراء الفرنسيين بشؤون المنطقة وشجونها وخصوصاً بخفايا السياسة السورية وأسلوبها. فقد كان السفير­ربما الوحيد­الذي يستقبله الرئيس الراحل حافظ الأسد ويحاوره، اذ لم يكن معروفاً عن الرئيس الراحل استقباله لوزرائه فكيف للسفراء المقيمين في دمشق ولهذا كله يملك كوسران المعرفة والخبرة لقراءة عميقة وواقعية ودون أوهام لكل ما يصدر عن دمشق، خصوصاً داخل الجدران المغلقة.
السياسة "الساركوزية" لفرنسا تقوم على وجوب حضور فرنسا قوية في دائرة الحل والربط في الشرق الأوسط، خصوصاً اذا كانت مسألة انعقاد مؤتمر دولي من أجل السلام جدية وفعلية. ومسار هذه العودة الجمع بين استثمار التواجد القديم واستثمار جمع ما لا يجمع بالديبلوماسية العادية. باختصار فرنسا ترى ان أي مؤتمر للسلام لن يكون جديا ولا حقيقياً دون مشاركة دمشق فيه بشكل أساسي. فدمشق تملك مفتاح الحرب والسلام مباشرة أو عبر حلفائها من ايران الى حزب الله مروراً بحركتي حماس والجهاد. وتستطيع باريس ان تشكل واسطة الاتصال بين دمشق وواشنطن. لكن اذا كانت باريس تريد ذلك، فإن لكل عودة "التذكرة" الضرورية والسعر المناسب. و"تذكرة" العودة لدمشق تقطع من "النافذة اللبنانية". فهذه "النافذة" هي فرصة "دمشق الاستثنائية لهذه العودة.
"النافذة و"الباب"
ماذا عن هذه "النافذة؟
لو كانت باريس تريد عودة دمشق بأي طريقة، لكانت طرقت الباب مباشرة. لكنها اختارت "النافذة" اللبنانية العالية جداً والصعبة، خصوصاً بالنسبة لدمشق وآمالها وطموحاتها ­ لإجبار دمشق على المرور عبرها. ومفتاح "النافذة" كما حددته باريس وتحديداً على لسان جان كلود كوسران وكما سرّبته ونقلته الأوساط السورية المطلعة هو في "قيام دمشق بدور بنّاء في لبنان". ونقطة الختام في هذا الكلام الفرنسي وجهاً لوجه والواضح جداً: "ان عدم اتباع سوريا سياسات بناءة سيؤدي الى اغلاق نافذة الفرصة الأخيرة".
طبعاً لدمشق موقفاً معروف، لكن هذه المرة لم تستطع أمام خبير مثل كوسران ان "تغلفه بما يقرره اللبنانيون وما يتفق عليه اللبنانيين" الى آخر "الأغنية" المعروفة جداً. لقد قالت دمشق بوضوح ودائماً استناداً الى الأوساط السورية المطلعة المنشورة:
* يجب ألا تكون العلاقة بين باريس ودمشق من "البوابة اللبنانية". يجب الفصل بين هذه العلاقات أي أن يتم تطويرها على الصعيد الثنائي. أما الملف اللبناني فيتم بحثه على حدة. والسؤال الطبيعي هنا ماذا يمكن لباريس ان تطلب من دمشق ان تقوم به في لبنان اذا تم الفصل بين الملفين.
* أن تعترف باريس وأن تحرص على "وجود مصالح استراتيجية لسوريا في لبنان. أي أن دمشق تطلب الأمر ونقيضه معاً في وقت واحد.
* المراهنة الدولية والعربية والاقليمية هي على ضرورة التوصل الى حل قبل انتهاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية في 24 تشرين الثاني، لأن في هذا الفراغ دفعاً للبنان نحو المجهول، خصوصاً في ظل رياح "العرقنة" الساخنة التي هبّت عليه من الشمال، وتمددت نحو الجنوب. لذلك فإن باريس لا تقوم ما تقوم به منفردة، فالمبعوث الفرنسي كوسران يعمل على تكامل تحركاته، بحيث لا تؤدي اي خطوة الى رد فعل باردة أو سلبية، وهو اذا كان قد فتح مساره على مسار مبادرة الجامعة العربية، فلأنه مطلع جداً على ابعاد "الخلاف المكتوم" بين الرياض ودمشق، والذي يخترق الصمت أحياناً بحركة سياسية" من نوع عدم تحوّل دمشق ولو الى "محطة" لجولة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بعد زيارته لباريس ومحادثاته مع الملك عبد الله الثاني في عمان.
حدود التعاون الايراني
الى جانب ذلك فإن باريس وهي تعمل على استثمار الموقف الايجابي لطهران من الأزمة في لبنان، فإنها تعرف جيداً ان التفاهم الايراني السعودي "محرك" مهم جداً للحل، لكن مهما بلغ اندفاع "القطار الايراني" فإنه لن يترك "العربة السورية" المشدودة اليه حالياً وحدها "لأن البديل لهذا الانفصال ليس مضموناً على الجبهات الأخرى".
دمشق تسعى الى صفقة كبيرة مستندة الى ان كل التطورات القادمة ستكون لمصلحتها. ومن ذلك التطورات في العراق التي تضعف واشنطن يومياً وتجعلها "بحاجة لها". وأن انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان بالتوافق سيكون لها فيه "حصة" وهو سيقوي المعارضة اللبنانية وسيقوي حضورها حكماً في الدولة اللبنانية. وأن قمة اذار العربية في العام المقبل، ستشرع كل الأبواب العربية باتجاهها. وأخيراً فإن هذا الموقف الملتبس لها المتعلق بالحرب والسلام، يمكن استثماره بقوة لمصلحتها. وان نتيجة كل ذلك ستكون في بقاء المحكمة ذات الطابع الدولي حبراً على الورق أو حتى جسماً قائماً بلا روح أي باختصار شديد: "وجود المحكمة بلا محاكمة".
باريس تعرف جيداً تفاصيل وأسرار هذه "اللعبة" القديمة ­الجديدة لدمشق. لكن ليس كل ما يرسم على الورق يمكن ترجمته ميدانياً، خصوصاً اذا كانت للأطراف الأخرى مواقعها ومواقفها وحساباتها، وانها مهما تساهلت، فإن مصالحها العليا تبقى أيضاً أسيرة لمدى سماع الآخرين لكلمتها. وكتابة التاريخ لا تنتهي مع فصل واحد ولا كتابته على ورقة واحدة على اعتبار انها الأخيرة، اذ لا توجد في كتاب التاريخ نقطة نهاية.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00