هل هي الصدفة وحدها التي جمعت بين الاعلان عن اتفاق أميركي ـ ايراني على "انشاء لجنة فرعية أمنية لبحث المشاكل الأمنية في العراق" من جهة، والكشف عن اقتراح ايهود أولمرت رئيس الوزراء الاسرائيلي اقامة دولة فلسطينية تضم 90 بالمئة من أراضي الضفة الغربية وغزة وأن يربطهما نفق آمن بينهما لمرور الفلسطينيين عبره من جهة أخرى؟.
الصدفة في صناعة المستقبل نادرة جداً، ما يحدث تقاطع حقيقي وطبيعي بين مسارين، لأن في هذا التقاطع يمكن حصول تفاهم واسع بين أطراف مشتبكة فيما بينها ولو على بعد.
ومن ذلك أن مسار التهدئة فالتفاهم فالتطبيع بين واشنطن وطهران، يتقاطع حكماً مع مسار التهدئة فالمفاوضات حول السلام في الشرق الأوسط. فالتشابك الحاصل في الملفات والقوى في المنطقة أصبح واضحاً وضوح الشمس، ولا داعي لانكار هذه الرابطة لأنها فقط تطيل عملية الانزلاق نحو المجهول ودائماً وسط النار.
الانزلاق الأميركي الدامي
واشنطن جادة وتريد فعلاً عقد مؤتمر دولي حول السلام في الشرق الأوسط، لأن الرئيس جورج بوش استيقظ متأخراً تحت وطأة الضربات الأمنية الموجهة الى القوات الأميركية في العراق، والضربات السياسية التي يتلقاها في واشنطن من أعضاء الكونغرس الديموقراطيين وحتى الجمهوريين. هذه الاستيقاظة أوصلته الى "ينابيع" الأزمات وهي الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وفي قلبه الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي.
رغم كل القطيعة بين طهران وواشنطن والاتهامات المتبادلة من نوع "الشيطان الأكبر" و"الدولة المارقة"، فإن قنوات الاتصالات لم تتوقف يوماً خصوصاً بعد وفاة الامام الخميني. فالايرانيون لا يقلون براغماتية عن الأميركيين. وهذه القنوات التي أصبح معظمها معروفاً تمتد من أفغانستان الى جنيف مروراً بنيويورك وصولاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق الى بغداد.
وبعيداً عن "النقاشات الصاخبة" الطبيعية والعادية جداً خلال مباحثات بين السفيرين الأميركي كروكر والايراني قمي في بغداد، فإن النتيجة التي توصلا اليها هي المهمة. ولأن الأولوية الحالية للأميركيين هي الحصول على الأمن في العراق وضمانه فإن الاتفاق على تشكيل اللجنة الأمنية يعني انه تم "وضع آليات أمنية وسياسية ميدانية"، وهذه النتيجة يجب ألا يستهان بها، فعلى الأرضية الأمنية لعلاقات من نوع العلاقات الايرانية ـ الأميركية يمكن أن تشاد "ناطحة سحاب" التفاهم والتفهم والعلاقات السياسية.
متابعة الإنجاز الأمني
هذا الانجاز يجب ان يتابع بدقة وحذر. واذا ما انعقد في المستقبل القريب أي لقاء على مستوى نائب وزير الخارجية في البلدين، يعني ان المفاوضات جدية جداً وان الباب نحو تحقيق اجتماع على مستوى وزيري الخارجية في البلدين أمر قائم. وهذا كله يعني أمراً واحداً ان المفاوضات تتجاوز حكماً الملف العراقي، وانها تتناول ببطء باقي الملفات الموجودة في "الحزمة" التي تتحدث عنها طهران والتي من ضمنها الملف النووي وفلسطين ولبنان.
والآن بعد ان اعترفت واشنطن علناً بشرعية "الدور الأمني" لطهران في العراق، ماذا يمكن للأميركيين مطالبة الايرانيين به لأنه اذا كانت ايران تريد التفاوض على "حزمة" كاملة من الملفات، فلماذا واشنطن لا تتقدم بدورها بمطالب وشروط تحقق التوازن المطلوب؟!.
أما دمشق فإنها تبدو في هذه المفاوضات حول العراق في الصف الخلفي تسمع ولا تشارك، وبالتالي تأخذ ما يقتطع ويعطى لها ولا تفرض ما تراه لها. ولعل إلغاء مؤتمر المعارضة العراقية قبل 24 ساعة من انعقاده الموافق لمؤتمر بغداد يؤشر الى استماع دمشق لمطالب طهران.
فالتفاوض الحقيقي معها. فقد سبق للايرانيين عندما سارع وزير الخارجية وليد المعلم الى لقاء نظيرته كونداليزا رايس ان أبلغوا دمشق "ان المباحثات السورية ـ الأميركية على الملف العراقي لا يصب في مصلحتها لأن ذلك سيدفع الادارة الأميركية الى استغلال حاجتها لتحسين أوضاعها الدولية ما سيضعفها ويسلب أوراقها تدريجياً. ويبدو ان دمشق قد "حفظت الدرس"، وعملت بخلاصاته، فأجّلت مؤتمر المعارضة العراقية لعدم اكتمال النصاب لأسباب تقنية.
الالتفاف على واشنطن
من الآن وحتى تتكشف تفاصيل "خريطة الطريق" بين طهران وواشنطن، فإن أولمرت القلق يبدو مستعجلاً لملاقاة النتائج هذه في وسط الطريق، حتى لا يضطر لركوب "القطار" في "المحطة" التي اختيرت له، مسبقاً نتيجة للتوافق الأميركي ـ الايراني بدلاً مما كان وما زال يريده ويطمح الى تحقيقه وهو ضرب ايران عسكرياً، وحتى لا يقع أولمرت تحت ضغط واشنطن كما حصل خلال حرب تموز من العام الماضي، وحتى لا يكون طرفاً في مفاوضات واسعة ومتعددة الأطراف تلعب المصالح العليا لواشنطن دوراً مرجحاً رغم الالتزام الدائم لها بأمن وسلامة اسرائيل، فإن أولمرت اختار تقديم عرضه على الطرف المعني وهو الفلسطيني.
العرض الاسرائيلي الأخير ليس جديداً بل هو قديم في معظم تفاصيله. والمشكلة ان صعوبات تنفيذه الآن أعقد بكثير من قبل، خصوصاً بعد انفصال "فتح" و"حماس" في الضفة وغزة واستحالة التفاهم حالياً على ادارة شؤون الفلسطينيين فكيف بالاتفاق على حل يرمي "الى فصل قيام الدولة عن باقي ملفات الوضع النهائي ومنها تحديد الحدود النهائية لدولة فلسطين أو مستقبل القدس أو اللاجئين وحق العودة".
واذا ما فشل مسار العرض الاسرائيلي لأن الفلسطينيين لا يمكنهم قبوله أو لا يستطيعون الاتفاق عليه، فإن أولمرت يتحلل من أي تعهدات أخرى واذا ما شارك في المؤتمر الدولي فإن مشاركته ستكون لتسجيل نقطة لمصلحته في خانته مع واشنطن. واذا حصل المستحيل وقبل الفلسطينيون بمشروعه فإنه أيضاً يشارك في المؤتمر ولديه الحل جاهزاً.
يبقى لبنان وسط عملية التجاذب الخارجية هذه. ذلك ان كل المواجهات والمسارات تتقاطع حالياً في ساحته. ومن مجريات الأمور ودمشق التي تعتبر انها تخوض معركة وجود وليس مجرد اعتراف، فإنها ستتعامل مع مختلف "الرسائل" الدولية التي تسلمتها والتي مضمونها واحداً وهو "ان استقرار لبنان السياسي يعدّ عنصراً بالغ الأهمية باتجاه التوصل الى حل" وكأنها "ورقة" اضافية لمصلحتها، تتطالب بها مزيداً من التقديمات مقابل الضمانات القليلة التي ستعطيها تحقيقاً لاستقرار وأمن لبنان.
ولذلك دمشق ستتحرك بقوة وتصميم لاستغلال واستثمار صعود الأزمة اللبنانية في الفترة نفسها الى أعلى درجاتها وآخر استحقاقاتها.
والسؤال هل يمسك اللبنانيون بقدرهم خصوصاً وأن "كرة النار" بين أيديهم أم يتركونها تحرقهم لمصلحة الآخرين؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.