قد يحتفل لبنان واللبنانيون في عيد الجيش مع الجيش بانتهاء معركة نهر البارد ضد الإرهاب، وقد لا يحتفلون، لكن من المؤكد أن الحسم قرار لا عودة عنه، ولا تفاوض عليه أو حوله. واجتثاث الإرهاب والإرهابيين من المخيم مسألة وقت، تقديرها متروك للقادة الميدانيين فالجيش الذي فقد 1528 شهيداً (حتى كتابة هذه السطور) من ضباطه ورتبائه وجنوده ومئات الجرحى، من واجبه أن يكون حريصاً على نقطة دم كل جندي ورتيب وضابط، مثلما يبدي حرصه يومياً على المدنيين ومحاولته إنقاذ عائلات الإرهابيين التزاماً منه بمناقبيته وأخلاقياته.
"المربع الأبيض" من المخيم حسب القاموس العسكري، هو ما تبقى حتى اليوم، حيث ضلعه يصل الى 125 متراً. وفي هذا المربع تكمن الملاجئ والخنادق المبنية قديماً. وأمام هذا الواقع فإن الجيش اللبناني يعتمد خطة "القضم المتدرج"، التي تعني التقدم متراً متراً ولتنظيفه من التفخيخ المنظم حرصاً منه على أرواح الجنود اليوم وعلى المدنيين غداً.
الالتفاف الوطني
ولا شك أن ما ساعد الجيش على مواجهة استحقاقات هذه المعركة الشرسة في إطار بناء دولة الاستقلال الثاني، عاملين:
* الالتفاف الشعبي والوطني اللبناني، حول الجيش، بحيث إن ابن أقصى الجنوب (سقط أول من أمس رائد من عين إبل شهيداً) استشهد في أقصى الشمال مثلما استشهد ابن الجبل من دون أن يطرحوا الأسئلة حول المعركة، كما فعل البعض من السياسيين، "تحت بند من نصب الفخ للجيش؟".
* إن الفلسطينيين من سكان مخيم نهر البارد ومعهم كامل أبناء الشعب الفلسطيني المنتشرين في المخيمات قد تعاملوا مع "فتح الإسلام" على أساس أنها "جسم غريب" زرع في المخيم، وأن سكانه هم ضحايا لهم جرى تهجيرهم بعد أن خسروا كل ما يملكونه وهو بالتأكيد كثير لأن المخيم كان مقراً وممراً اقتصادياً في منطقة الشمال. وهذا الموقف ساعد الجيش واللبنانيين على حصر المعركة ضد الإرهابيين وليس على أساس أنها بين اللبنانيين والفلسطينيين، مما كان سيخرج "غول" العنصرية والشوفينية، لتخريب هذا الإنجاز وفتح خنادق جديدة لا يريدها الشعبان معاً.
لا يكفي النجاح أثناء المعركة في الفصل بين إرهاب "فتح الإسلام" والشعب الفلسطيني ووحدته مع الشعب اللبناني. الأهم هو التأسيس عليه ومن ثم البناء عليه بما يؤكد ثوابت هذه الوحدة. ولذلك فإن مواجهة "الوضع الإنساني الصعب جداً" الناتج عن تهجير نحو ثلاثين ألف شخص الى مخيم آخر معروف باكتظاظه هو مخيم البداوي (17 ألف نسمة) كان وما زال المهمة العاجلة للحكومة اللبنانية ولكل المنظمات الدولية، ولذلك جرت "حضانة كاملة لهم"، مهما كانت نواقصها تبقى ايجابياتها كبيرة جدا.
والمهمة الثانية كانت حرباً ضد الشائعات المنظمة والمدسوسة أحياناً وأحياناً أخرى وليدة المعاناة اليومية للناس العاديين الذين خسروا كل شيء بما فيها أشياء ذكرياتهم على مثال النكبة الكبرى. ومن تلك الشائعات ان الهدف هو إزالة المخيم لنقلهم تنفيذاً لمشروع التوطين الوهمي. أو حتى اقتلاعهم تمهيداً لاقامة قاعدة اميركية. وأمام هذه الشائعات، خرجت لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني التي يتولى السفير خليل مكاوي رئاستها عن الجانب اللبناني بشعار "خروجكم مؤقت، رجوعكم مؤكد، إعمار المخيم محتّم".
"المشروع الكبير"
هذا الشعار "مشروع كبير"، ولذلك له حسابات كبيرة جذورها من الماضي والأرض وامتداداتها الى المستقبل. وبداية فإن مخيم نهر البارد لن يكون المخيم نفسه عشية اعتداءات ارهابيي "فتح الاسلام" على الجيش اللبناني وما حملته من خطر مشروع اقامة "امارة اسلامية" في الشمال اللبناني على غرار "امارة الأنبار" في العراق. والتغيير المطروح والطبيعي بعد كل هذه والتضحيات لن يتناول البنى السكنية التي كانت عليه فقط التغيير سيطال حكماً الحجر والبشر.
السفير خليل مكاوي، يؤكد انه منذ الأسبوع الأول للمعارك واجهت لجنة الحوار سؤالاً حقيقياً فرزته طبيعة المعارك وهو: "ماذا يجب أن نفعل عندما تنتهي المعارك"؟. وللاجابة عن ذلك جرى تشكيل لجان ثلاث لدراسة الوضع حاضراً ومستقبلاً. والمتفق عليه مواجهة المشكلة بحلول موقتة وسريعة أولاً ومن ثم معالجة المرحلة التالية بهدوء.
الخطة المرحلية الأولى تقوم بها الأونروا وهي تتضمن بناء منازل مؤقتة للمهدم من المنازل لاحتضان العائلات المهجرة. وقد بدأت دراسة واعداد الأراضي الصالحة لذلك. كما سيتم في الوقت نفسه اعادة اصلاح ما يمكن اصلاحه، وهذا المرحلة كلها ستجري بعد:
دخول فوج الهندسة من الجيش اللبناني ومنظمة هفح لتنظيف المخيم من الألغام.
ازالة الانقاض والركام
اجراء مسح شامل للمخيم لتجديد المدمر من بناء والمتضرر اما اعادة بناء المخيم كله، فإن لجنة مشكلة من الأونروا والأمم المتحدة والجيش والبنك الدولي ومؤسسة الخطيب وعلمي هي التي ستقوم بذلك مستعينة بالدول المانحة لأن لبنان وحده لا يمكنه تحمل هذه المسؤولية الضخمة. ويؤكد السفير مكاري ان هذا كله سيشكل فرصة ثمينة لاعادة بنائه على أسس حديثة تأخذ في الاعتبار اعادة بناء بنى تحتية حقيقية من طرق ومجارير وفسحات تسمح بالرؤية والتهوئة الصحية. وهذا العمل سيشكل مثالاً ميدانياً لباقي المخيمات في اعادة بناها التحتية خصوصاً انه جرى تخصيص 27 مليون دولار من الدول المانحة لمخيمي صبرا وشاتيلا وعين الحلوة.
إفرازات الماضي
وتواجه اللجنة منذ الآن مشاكل قديمة فرزتها نتائج المعركة بقوة، ذلك ان الأونروا عليها التعامل مع ضرورة اعادة رسم أرض المخيم. فإذا كان القسم الرئيسي والكبير منه مستأجرا منها فإن أقساماً أخرى قد وضعت اليد عليها ولذلك يجب القيام بتسويات سريعة وعادلة لها.
على صعيد البشر، فإن التغيير لن يطال سكانه رغم ان الأحداث قد تربك السلطات خصوصاً لمن أضاع أو احترقت أوراقه الثبوتية. لكن التغيير سيطال حكماً نظامه وتنظيمه. ذلك ان زمن فوضى السلاح قد انتهى. وهو سيكون المربع الأول الذي فرضته المعركة ضد الارهاب، لتطبيق ما اتفق عليه في الحوار بين مختلف القوى اللبنانية تحت قبّة البرلمان والذي جسد الوفاق الوطني. والاتفاق واضح جداً إذ ينص على اعادة تنظيم السلاح، وضبطه من داخل المخيمات وسحبه من خارجها.
ويبدو ان معارك نهر البارد، والعجز الواضح والثابت للمنظمات الفلسطينية وخصوصاً من جانب حركة فتح في مواجهة ارهاب فتح الاسلام، وحتى في تشكيل فصائل أمنية للمساهمة في وقف المعارك، الى جانب العجز الفاضح الذي تبلور في مخيم عين الحلوة عندما تم تسليم الأمن لمجموعة "عصبة الأنصار" بديلاً عن حركة فتح التي تشمل جداولها أكثر من خمسة الاف عنصر، كل ذلك دفع بالسلطات اللبنانية لطرح السؤال الذي ليس له جواب: ما هي وظيفة السلاح في المخيمات اذا لم يكن قادراً على ضبط الأمن داخله؟ وما هي ضرورة الخنادق ومستودعات السلاح داخل الأزقة وتحت المنازل؟
من قلب أتون المعارك تتم صياغة الاجابات عن كل الأسئلة. والجيش اللبناني الى جانب السلطات الرسمية يدرس ويتداول مستقبل الوجود الأمني للجيش خارج المخيمات والقوى الأمنية داخله، وبالتالي ما هي قواعد العلاقات الأخوية بين هذه القوى اللبنانية الرسمية وأبناء مخيم البارد وبعده بقية المخيمات.
مخيم نهر البارد سيعود أفضل مما كان وسيعود سوقاً للشمال في لبنان كما كان يلعب دوراً مهماً في الاقتصاد ونموه بعيداً عن طرق التهريب التي كان يمر عبرها ما يجب ألا يمر.
هذا الطموح يتطلب ارادة لبنانية فلسطينية مشتركة على قاعدة من الثقة المتبادلة، لمواجهة الشائعات والتحريض الداخلي والخارجي معاً، وتكفي هذه التجربة الدامية التي حوّلت النهر البارد الى نهر من الحمم.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.