بلد "مجنون" مثل لبنان، لا يعالجه سوى طبيب "مجنون" مثل برنار كوشنير. جميع القوى السياسية اللبنانية تعرف وتدرك وتلمس يومياً ان نهاية مسار الأزمة كما هو جار سيطيح لبنان نحو فراغ دستوري، فمواجهات تتصاعد على نار "العرقنة"، فوداعاً للكيان اللبناني. والعالم كله من دول عربية واقليمية ودولية تلاحق انزلاق لبنان نحو النار، لكنها تبدو عاجزة عن صوغ الحل، لا القوى اللبنانية قادرة على الاجتماع لأكثر من أخذ صورة تذكارية وربما وداعية، ولا الدول المعنية بلبنان قادرة او مؤثرة أو في حقيقة الأمر تريد حل الأزمة، لأن حساباتها تتجاوز لبنان.
"الطبيب" والتعويض في لبنان
الطبيب كوشنير يحب لبنان وهو على علاقة معه وبه منذ أكثر من 16 سنة. وهو يريد فعلاً ومن كل قلبه انقاذ لبنان. طبعاً، يريد وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير النجاح، لأنه يعتقد أنه أهل لتحقيقه وأن هذا النجاح يعوضه غيابه عن حل ملف الممرضات البلغاريات، وعدم سلوك مشروعه حول دارفور نحو التنفيذ، وابعاده عن الفعل الحقيقي في ملف كوسوفو لأنه يعني واشنطن وموسكو مباشرة بقي له لبنان فليكن ذلك. لكن كوشنير يريد أيضاً تحقيق نجاح سياسي وديبلوماسي لفرنسا المعنية بلبنان وبالشرق الأوسط حكماً. هذا النجاح الذي يعمل له كوشنير في لبنان يمكن أن يكون نجاحاً مثلثاً يدخله الى جانب الرئيس نيكولا ساركوزي تاريخ التهدئة والسلام العالميين.
لا كوشنير ولا وزير خارجية اسبانيا انخيل موراتينوس يملكان "المفتاح" لحل الأزمة في لبنان. ورغم كل جهودهما فإنهما ما زالا فوق قمة "الجبل" البعيد عن "السهل" حسب توصيف الوزير كوشنير نفسه. وما هذه الحالة الا لأن الأزمة في لبنان هي عدة ازمات في أزمة واحدة، عقدتها المشتركة والأساسية: "مستقبل العلاقات بين واشنطن وطهران ودمشق. ولذلك فإن "الطبيب" الفرنسي والخبير الاسباني وضعا يدهما على أصل القضية عندما أصر الأول "أن دولاً أخرى تتدخل في الشأن اللبناني ولهذا التدخل تأثيرات سلبية"، مشيراً الى دمشق وطهران و"بلورة هذه المظاهر انجرار لبنان الى الحرب". أما الثاني فقد حدد أكثر الحالة عندما أشار الى "أن سوريا هي جزء من المشكلة وجزء من الحل".
الصورة تبدو الآن أكثر وضوحاً. وخطوطها الأساسية تتقاطع في طهران ودمشق و باريس نجحت في العبور الى طهران مستفيدة ومستثمرة علاقاتها المباشرة بالملف النووي. ويعمل الموفد جان كلود كوسران على استثمار تفعيل رغبة طهران التي أبدتها خلال زيارة نائب الرئيس أحمدي نجاد الى باريس ولقائه بالرئيس السابق جاك شيراك، في المحافظة على أمن واستقرار لبنان. أما دمشق، فإن محاولة فتح "النافذة" عليها وان فشلت في المرة الأولى بسبب اغتيال النائب الشهيد وليد عيدو، فإن مسار البحث عن حل للأزمة اللبنانية يمر برأي باريس بدمشق.
مدريد معنية أيضاً
وتبدو مدريد العاصمة المعنية جداً وعلانية بفتح "الباب" لدمشق ومعها. ولذلك فإن زيارة موراتينوس لها ليست الأولى، وسبق لرئيس الوزراء أن تدخل مباشرة على خط المصالحة بين دمشق والرياض وفشل. والتزاوج بين الجهدين الفرنسي والاسباني واضح، والتقاء كوشنير المغادر مع موراتينوس الواصل في مطار رفيق الحريري في بيروت ليس مجرد مصادفة وانما هو حسن تقدير وعناية لتوقيت الرحلتين. فقد كان باستطاعة كوشنير عقد مؤتمره الصحافي في بيروت، لكنه اختار المطار ليفسح المجال أمام تبادل المعلومات ووجهة المسارات سواء مع دمشق أو القاهرة و الرياض وربما واشنطن.
هذا "الجنون" وهو في الحقيقة اندفاع محسوب بدقة، يعود فقط الى قراءة معمقة في أصل المشكلة وفي أشكالها المقبلة بكل ما يعني ذلك من مخاطر لا تتناول لبنان وحده وانما كامل الضفة الشرقية لحوض البحر الأبيض المتوسط. هذا الحوض الذي يشكل جزءاً أساسياً غداً أكثر من اليوم لأمن واستقرار أوروبا الكبرى وليس فقط جنوب الاتحاد الأوروبي الصغير. هذا عدا الخوف الكامن والعميق على أمن وسلامة القوات الفرنسية والاسبانية العاملة في "اليونيفيل" والتي كانت تجربة الجنود الاسبان المكلفة جداً عرضاً ميدانياً للمخاطر الممكنة.
باريس ومدريد ومعهما عواصم الاتحاد الأوروبي، يخافون من أن ينتهي السباق الدائر حالياً في ربع ساعته الأخير بين الحرب والسلام بحرب لا أحد يمكنه معرفة كيفية انتهائها. فالخوف قائم فعلاً من أن يقوم الرئيس الأميركي جورج بوش في لحظة يأس من الحل على مستوى المنطقة، واضطراره للانكفاء في العراق وسط هزيمة مدوية، بالهرب الى الأمام، فيشعل المنطقة في مواجهة شاملة مع طهران، أو بواسطة اسرائيل مع سوريا.
التعزيزات الأميركية
ولا شك في ان التعزيزات العسكرية الأميركية وان كانت جزءاً من التفاوض بالنار، تترك الباب مفتوحاً نحو المواجهة الشاملة مع طهران، كما ان انسداد الأفق أمام دمشق بسبب خطر المحكمة الدولية من جهة وشعورها بأنها رغم كونها جزءاً من المشكلة سواء في لبنان أو المنطقة فإنها ستبقى معزولة وان واشنطن لا تريدها جزءاً من الحل إلا بعد ان تقلع جلدها كما فعل العقيد معمر القذافي وهي غير قادرة على ذلك، لأنه لا يبقى لها ما تقايض به ولا ما تستثمره كما اعتادت من "كيس" الاخرين.
أمام خطر الحرب في لبنان أو في منطقة الشرق الأوسط لا يعود أمام أوروبا وتحديداً باريس ومدريد وبرن سوى العمل لوقف عجلة الانزلاق السريع، والحل في ربح دمشق دون خَسارة لبنان. وهذا الربح يكون في اقناع دمشق "بالمشاركة الايجابية مع كل الأطراف للعثور على حل لمختلف مشاكل الشرق الأوسط" وبالتالي تجنيب نفسها والمنطقة اللعب مع الأخطار ومما يعزز هذه القناعة الأوروبية، ان واشنطن المعتدلة ممثلة بوزيرة الخارجية الأميركية، تتحدث وهي قادمة الى المنطقة عن "اعتماد استراتيجية أوسع نطاقاً للتصدي على التأثير السلبي الصادر عن "القاعدة" وحزب الله وسوريا وإيران". ومجرد الجمع بين "القاعدة" وهذه القوى هو مشروع تحريض للداخل الأميركي يسمح حكماً بتشريع أي حرب يريد بوش توريث مفاعيلها ونتائجها لخليفته في البيت الأبيض.
هل تسمع دمشق صوت العقل الأوروبي الذي يريد انقاذ المنطقة من خطر داهم سواء في لبنان ومن ثم عبره الى الجوار الواسع، فتكون جزءاً من الحل؟ أم تبقى منغلقة على نفسها واستكمال مسيرة استثمار وجودها جزءاً من المشكلة الذي نجحت فيه حتى الآن ومتابعته عبر تصعيد حرارة الوضع لطبخ الحل الذي تطمح اليه؟
المراهنة خطيرة جداً. لأن اللعبة اصبحت "روليت روسية" أي رصاصة واحدة في المسدس الموجه الى الصدغ؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.