معارك "كسر العظم"، تتمدد بنجاح كبير من أصغر حارة في لبنان، الى مساحة منطقة الشرق الأوسط الكبير، وبالعكس حكماً وحتماً. المتواجهون يتوزعون بين "فيلة" لا يهمها ماذا يجري في مخزن البورسلين الذي تقتحمه، و"نمل" يعمل على انقاذ نفسه أولاً، واقتناص فرصة لاقتحام أذن أي "فيل" لدفعه الى الانتحار.
لكن ليس كل ما تراه العين هو كل شيء، خصوصاً ان وراء الدخان المتصاعد من المعارك، تتوزع طاولات التفاوض، بعضها مكتمل العدد وبعضها الآخر تنتظر المدعوين اليها: وكل واحد يعمل على تسجيل النقاط في خانته لتحسين موقعه التفاوضي، وللحصول مباشرة او اقتناصاً على مزيد من التنازلات، والمكتسبات.
فخ التوافق
التصعيد في كل مكان. لكن أبواب التفاوض مفتوحة على ساحات وساحات. وحدها ساحة لبنان أو الأصح لبنان ـ الساحة مقفلة على نفسها رغم كل المحاولات العربية والاقليمية والدولية لفتحها وهذه الحالة ما كانت لتقع لولا ان المفتاح الحقيقي الذي يفتحها ما زال وراء الحدود يتنقل بين دمشق وطهران.
الايرانيون يصرون وهم يكررون يومياً انهم يريدون لبنان "هادئاً وآمناً ومستقراً مقفلاً على "رياح العرقنة" التي تلفه وكأنها تختبر الثغرات الواسعة والكفيلة بتحقيق اختراق حارق. لكن وهي تؤكد ذلك تعترف سراً وعلانية انها غير قادرة على الذهاب بعيداً في ضغوطها على حليفتها دمشق، حتى لا يؤدي سقوطها او تراجعها أو حتى انزلاقها نحو مقايضة واسعة، الى كشف "ظهرها" أمام خصمها الكبير الولايات المتحدة الأميركية.
دمشق، سعيدة جداً بهذا المنطق، وهي تذهب الى أقصى ما يمكنها في استثماره خصوصاً في العمل على تقديم نتائج هذا الاستثمار الابتزاز في سوق المقايضة. ورغم ان الرئيس أحمدي نجاد الذي يوصف في طهران بأنه "مذياع الحرب النفسية"، فإن أي كلمة تؤخذ منه تعتبر "ورقة" مهمة على طاولة المفاوضات.
ومن ذلك ان البيان المشترك الذي صدر في نهاية زيارة نجاد الى دمشق لتهنئة الرئيس بشار الأسد بولايته الثانية تحول الى وثيقة تقدمها دمشق الى من يهمه الأمر وهو تحديداً واشنطن بالنجاح المنقطع النظير الذي حققته. فقد اعتبرت دمشق ان موافقة نجاد على مطلبها بحدوده حتى الرابع من حزيران 1967، اعتراف صريح بـ:
* حق دمشق بالتفاوض.
* اعتراف ايراني بإسرائيل لأنه لم يرد في البيان "الكيان الصهيوني" وانما اسرائيل.
* اعتراف ايراني بوجود حدود لاسرائيل هي خط الرابع من حزيران 1967، علماً أن نجاد يردد يومياً بزوالها.
وفي مسلسل اثبات ان طهران "تتبع" دمشق وليس العكس هو الصحيح فإن تضمين البيان ضرورة "تعزيز الوحدة الوطنية والوفاق الوطني" في لبنان يعني اقتراباً ايرانياً من دمشق، "فالتوافق" في لبنان هو "ماركة شامية مسجلة".
العراق والحسم
اما طهران، فإنها تبدو منشغلة بالعراق اكثر لأن المعادلة الحقيقية التي ستحسم الموقف بينها وبين واشنطن تصاغ على الارض بدماء العراقيين طبعاً واحياناً بدماء الاميركيين. ولذلك فان المؤتمر الاول الذي جمع بين السفيرين الاميركي والايراني بحضور العراق، والذي وصف "بالعاصف"، تبين اليوم كما اكدت اوساط مطلعة جداً بأنه "لم يتسم بالعصبية وكلا الطرفين كان متحمساً لتحقيق نتائج مثمرة وان الجو وان ساده صراحة حقيقية الا انه كان بناء جداً. وانه جرى كسر الكثير من الجليد الذي تشكل طوال 28 سنة من المقاطعة. واخيراً ان اللجنة الامنية التي اعلن عنها ستكون عالية المستويات وهي ستكون اساسية ومهمة".
وها هو الاعلان عن اجتماع اللجنة الامنية مطلع الاسبوع المقبل بالتوافق مع اجتماع لجنة الامن لدول جوار العراق في الثامن من هذا الشهر، ما يؤكد ان التصعيد الدموي ميدانياً تتم متابعة اصدائه ونتائجه على طاولة المفاوضات.
من الطبيعي ان تغار دمشق من طهران وهي ترى كيف نجحت في التفاوض الدقيق والصعب مع واشنطن في حين ان كل ما تفعله يزيد قفلاً جديداً على "الباب". وهذا لم يكن ليحصل لو ان دمشق عرفت كيف "تلعب" مثل طهران رغم الفارق في الاحجام، فلا كل "الفيلة" بالضخامة نفسها، ولا كل "النمل" بالحصافة والخبرة ذاتها.
إقفال "دائرة النار"
وبدلاً من ان تحسّن دمشق سلوكها في لبنان، وتساهم في فتح "دائرة النار" حوله تحقيقاً منها لمطلب أساسي للمجتمع الدولي، فانها باسم فرض التوافق على اللبنانيين، (بدلاً من ان يحققوه بأنفسهم)، فإنها تنزل يومياً درجة بعد درجة على السلّم الذي يوصلها الى طاولة المفاوضات لتحصل على ما يمكن للعالم منحه لها، وما يمكنها على هضمه تحت "مظلة" الشرعية الدولية.
هل ينجح في النهاية "حائك" السجاد الايراني باقناع "بياع الخوف" الدمشقي في المساهمة بالحل، صيانة منه ومنها لحليفهما الاول والاساسي "حزب الله"، ام تستمر "المعركة المكتومة"، فيدفع "الحزب" ثمنها غالياً لبنانياً مهما اشتد حالياً التضامن المذهبي القائم حوله بسبب "الحرب الاهلية الباردة"؟. ام تستمر هذه المعركة الغارقة وسط ضجيج المعارك الاخرى الكبرى فتأتي اللحظة التي يصبح فيها الانسحاب او التهدئة مستحيلاً؟ فيكون الثمن باهظاً جداً.
يبقى ان "حزب الله" وهو المعني الكبير بكل ما يجري في لبنان ـ الساحة اولاً وعلى مستوى المنطقة بفعل التحالف والالتزام بطهران ودمشق ثانياً مستمر في مواقفه الداخلية التي اجهضت انتصار تموز 2006 سياسياً، الى درجة ان حسن نصرالله البعلبكي الذي خطفه الجيش الاسرائيلي في الحرب مع عائلته يصرخ عالياً من بعلبك: "ارغب في الهجرة الى بلجيكا"!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.