الجميع يريد الحل للأزمة في لبنان. القوى الداخلية والأطراف الخارجية على السواء. لكن، كل واحد منها يريد الحل على قياسه. ولذلك ما زال الحل معلقاً، والوضع يتنقل بين "هبة باردة، وهبة ساخنة"، بأسرع من صوت الأنباء والاشاعات. فإذا تفاوض طرفان مثل الأميركيين والايرانيين، استبشر اللبنانيون خيراً، مما ينعكس ايجابياً على "بورصة" الأزمة والحل. والعكس صحيح. والتداخل بين طوابق مبنى الأزمة اللبنانية، أصبح معروفاً ومكشوفاً أمام الجميع.
"التفاوض بالنار"
اذا كان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي هو جوهر ومركز الصراع العربي الاسرائيلي، فإن النزاع الأميركي الايراني، هو محور الحل والقطع في معظم النزاعات والمشاكل على طول "قوس الأزمة" الممتد من أفغانستان الى الضفة الشرقية في لبنان وغزة وحوض البحر المتوسط. ولذلك تقرأ التحولات في "بورصة" الأزمة في المنطقة وطبعاً في لبنان من عناوين التعاملات اليومية الميدانية في اللعبة المكشوفة أيضاً وهي لعبة "التفاوض بالنار".
المؤتمر الثاني الذي جمع الديبلوماسيين والخبراء الأمنيين من الجانبين الايراني والأميركي بحضور عراقي رسمي، شجع ويشجع على التفاؤل خصوصاً أن المصالحة بعد 28 سنة من المقاطعة والحرب الباردة وحتى الساخنة بالواسطة، لن تعلن في اجتماعين، فالأمر أكثر تعقيداًمن ذلك ولا بد من الصبر، خصوصاً أن الايرانيين يعملون ويفاوضون لعل "الصبر يتعب من صبرهم".
الأميركيون، يعرفون بدقة الطريقة الايرانية في التفاوض، واعتمادهم المكثف على الصبر "سلاحاً مميزاً" في وجههم، وهم الذين تحترق "أصابعهم" يومياً في نار العراق وامتداداً الى أفغانستان. ولو كان "الصقور" من المحافظين المتشددين في واشنطن ما زالوا بكامل عددهم وعدتهم بقيادة "صقر الصقور" ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي، لكانت الحرب سلاحاً مباشرا لكسر "الصبر" الايراني. أما وأن ديك تشيني اصبح شبه وحيد في ادارة تعيش على وقع الهزيمة فإن الأمر مختلف جداً.
تشيني "صقر الصقور"
رغم هذا الاختلاف. فإن الذين يزورون واشنطن ويلتقون المسؤولين فيها، ينقلون أن ديك تشيني ما زال مؤثراً وفاعلاً وله كلمته في القرار السياسي الاستراتيجي. باختصار ما زال تشيني "سيد الحرب" في البيت الأبيض. ولذلك يجب الأخذ بالاعتبار وجوده وموقفه في كل الحسابات، مهما بدا نفوذه متراجعاً.
ويقول هؤلاء المتابعون والمطلعون، أن ديك تشيني، مصرّ على الحرب ضد ايران، ولا يجد بديلاً عنها للتعامل معها، ولذلك فإن الخطط المعدة ما زالت قيد التعديل والمتابعة، وأن الحرب التي يريدها تشيني هي حرب تتضمن "ضربات جراحية" ومكثفة تضم اكثر من 1500 هدف من بينها المواقع النووية. وبرأي مجموعة تشيني الضعيفة حالياً، ان هذه الحرب يجب ان تقع مع مطلع حزيران من العام القادم وقبل الانتخابات الرئاسية مما ستضع المرشحان الديموقراطي والجمهوري تحت ضغط نتائجها بدلاً من ملاحقة نتائج الحرب في العراق وادانة ادارة الرئيس جورج بوش. كما ان الرئيس المنتخب سيرث ملفاً مشتعلاً عليه ان يتعامل معه وفقاً لحيثياته، بدلاً من البدء بتنفيذ سياسة مختلفة 180 درجة.
باريس: خطر الجنون
خطورة هذا السيناريو المعد بكامل تفاصيله ان باريس تراه جدياً. ولذلك فإن ديبلوماسياً متابعاً لملف منطقة الشرق الأوسط والذي سبق أن التقى مسؤولين أميركيين ينقل عنه انه يرى نوعاً خطيراً من "الجنون" في بعض دوائر القرار ومفاصله في واشنطن، وأن ترجمة هذا "الجنون" في رغبة جامحة منها (وتحديداً تشيني ومن معه) بشن حرب صغيرة أو كبيرة مفتوحة او محدودة لا فرق، لأن لا أحد يستطيع ضبط تطورات أي حرب وانفتاحها على المجهول. والفارق بين قراءة باريس والقراءات الأخرى ان موعد تلك الحرب يبدو أقرب بكثير من نهاية الربيع المقبل. ولا تستبعد مصادر مطلعة في باريس ان يكون الرئيس ساركوزي قد فاتح "صديقه" الرئيس بوش في خطورة أي حرب ضد ايران على المنطقة وعلى الاقتصاد العالمي وخصوصاً الأوروبي، الى جانب عدم القدرة على ضبط تحولاتها ونتائجها.
الحل التفاوضي
ومما يرفع من وتيرة المخاطر، ان "الصقور" في واشنطن يرغبون في قطع الطريق على فرنسا ومعها اوروبا للتوصل الى حل تفاوضي مع طهران، او حتى في استكمال سياسة الضغوط الدولية عليها عبر منظمة الامم المتحدة، والتي ترى باريس ومعها عواصم اوروبية معنية عديدة، ان قرار العقوبات مهم جداً وان تفعيله وتنفيذه بدقة ومتابعة، منتج ومؤثر جداً، سواء بسبب اثاره الاقتصادية ـ بروز ازمة البنزين مثلاً ـ او حتى من انعكاسه على المناقشات الداخلية بين اطراف النظام، وان هذه السياسة تأتي في الوقت المناسب حيث الشيخ هاشمي رفسنجاني البراغماتي عاد وصعد بقوة الى رأس الهرم بعد وفاة آية الله مشكيني وتوليه رئاسة مجلس الخبراء مما يمنحه حضوراً مميزاً الى درجة المشاركة في صياغة القرارات الى جانب آية الله علي خامنئي. فالمعروف ان لمجلس الخبراء سلطة انتخاب "القائد" أي "الرهبر" وعزله في حالات معينة.
ماذا عن طهران؟
طهران تبذل جهوداً علنية للالتفاف على اي مشروع حرب اميركية ضدها. ولذلك تريد وتعمل على استهلاك الفترة الزمنية للرئيس جورج بوش وادارته المتبقية والتي برأيها يشكل "نمراً جريحاً" يخيف بردة فعله اكثر من "النسر" المحلق عالياً. ولذلك تفتح كل "النوافذ والابواب" مع الادارة الاميركية، الى درجة ان التفاوض امنياً اصبح "سلاحاً" رئيسياً في العراق.
الى جانب هذا فان طهران تريد فعلاً تطويق اي محاولة للعب على التوازن القائم حالياً في الداخل الايراني بين القوميات والمذاهب، بحيث لا تتعرض في اي لحظة غير محسوبة لمفاجأة غير متوقعة. ولذلك فان تعاونها وتفاهمها مع المملكة العربية السعودية هو في قلب السياسة الدفاعية والوقائية لطهران في مواجهة واشنطن.
وفي اطار هذه السياسة الوقائية، فان طهران واستناداً الى مصادر مطلعة فيها، ستعمد في الاشهر الخمسة المقبلة، الى اعلان وقف التخصيب النووي بعد ان اكتملت "معرفتها وخبرتها في هذا المجال"، مما يسحب آخر ورقة من يد "الصقور" الاميركيين الراغبين بالحرب ويفتح الباب على مصراعيه للتفاوض مع الاوروبيين والوكالة الدولية للطاقة النووية على استخدامات هذه المعرفة في المجال النووي السلمي.
لبنان شاء ام ابى في وسط هذه "الحلقة البركانية". للحرب اثارها عليه. وللتهدئة والمفاوضات نتائجها عنده، خصوصا ان دمشق حليفة طهران، و"حزب الله" حليفهما في "قلب" قراري الحرب والسلام!.
والسؤال: هل تتابع دمشق استثمار الأزمة في لبنان، فتعمل على التصعيد ورفع وتيرة التوتر، فتعطل بذلك خطط طهران في احتواء الأزمة عبر الالتفاف على واشنطن وتعميق تفاهمها مع الرياض، فتكون دمشق بذلك "الدب الصديق" الذي يقتل "صديقه" الايراني بحجّة التخفيف عنه، أم تنضبط على وقع التحرّك الايراني، خصوصاً أن "الانسجام" شرط أساسي لنجاح "رقصة التانغو"؟
أما لبنان فيبدو أنه محكوم بتمزق قواه، رغم ان الغرق إن وقع فهو سيقع للجميع!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.