لم تتوقع دمشق، وهي تحصد ثمار صمود وانتصار المقاومة في حرب تموز من العام الماضي، ان تُفتح عليها جبهة مكلفة تضطرها إلى تغيير كامل استراتيجيتها، وأن تكون لعبة الحرب والسلام بوابتها. ذلك أن صمود مقاتلي المقاومة في الجنوب المكشوفين في وجه سلاح الجو الإسرائيلي وحتى في البر في مواجهة سلاح المدرعات الاسرائيلية، نفخ الروح في "ميت سريري" منذ 35 عاماً، فأحياه وأعاد الحديث عن تحرير الجولان بالمقاومة ان لم يكن بالتفاوض والسلام. ولعل ما نُقل عن الرئيس بشار الأسد قوله لأمين عام منظمة الأمم المتحدة السابق كوفي أنان من "أن سوريا لن تنتظر عشرين سنة لاستعادة الجولان"، شكل شرارة التحريك وأعطى دفعة من الاوكسجين إلى ذلك "الميت سريرياً". فقد حدث خلل كبير نتيجة لرفع صور السيد حسن نصرالله في دمشق تأييداً للمقاومة، وتضخم السؤال: وماذا عنّا نحن لماذا لا نعمل لتحرير الجولان؟
استعادة تحرير الجولان
دمشق تضخ حالياً ويومياً المعلومات والتسريبات ـ لا يوجد أي مراقب محايد يؤكدها أو ينفيها ـ حول "استعداداتها لاستعادة الجولان". وإذا كان مسار المفاوضات السرية أو عبر الوسطاء غير الرسميين قد استمر بلا انقطاع رغم انكار وحتى استنكار دورهم كما حصل فعلاً، مع السوري ـ الأميركي سليمان، فإن ذلك لم يمنع دمشق من تكثيف التسريبات حول العمل بقوة وبسرعة "للاستفادة عسكرياً من الدروس الكاملة التي أفرزتها حرب تموز 2006 في لبنان". واستكمالاً لذلك، فإن دمشق وبالتعاون مع طهران، أعادت تشكيل جيشها بما يتلاءم مع استخلاصات تلك الدروس.
وبناء على هذه الدروس، جرت إعادة تشكيل الجيش السوري كلياً. فهذا الجيش الذي فقد روحه القتالية بعدما استنزفته قلة التسليح أو حتى مواكبة تحديثات الاسلحة خصوصاً الجوية منها بعد أن توقفت روسيا لسنوات عن تزويده أحدث ما لديها من ترسانة عسكرية، إما بسبب غياب القرار السياسي، والتجارب السابقة لعقود التسلح التي لم يسدد ثمنها من جهة، وإما بسبب استنزاف الروح القتالية لهذا الجيش في لبنان، ضباطاً وجنوداً، حيث تغيرت وظيفته كلياً من جيش مقاتل ورادع إلى قوة أمنية طاغية تستثمر وجودها على الطرق أو في صالونات القرار نفوذاً وأموالاً وعائدات منظورة وغير منظورة، من جهة اخرى.
المعلومات الحالية التي يحملها المتضامنون والمتكافلون مع دمشق، أن فرقاً عديدة من الجيش يصل عددها إلى 12 لواءً (أي بين 36 و60 الف جندي) قد شكلت من جديد وأعيد تدريبها وتسليحها لتجمع في وقت واحد بين طبيعة الجيوش الكلاسيكية وقدرتها على الحركة العلنية السريعة، وتدريب مجموعات المقاومة وتسليحها على مثال المقاومة في لبنان.
التسليح الصاروخي
واستكمالاً لهذه المعلومات، فإن هذه الفرق تتحرك بوحدات مجهّزة بأسلحة مضادة للدروع من نوع "ار. بي. جي ـ 29" وصواريخ "كورنيت"، وربما أسلحة جديدة مستحدثة بناءً لدروس حرب تموز في لبنان. كما جرى ايضاً دعمها بشبكة صواريخ أرض ـ أرض بجميع أنواعها وخصوصاً المتوسطة المدى القادرة على ضرب عمق إسرائيل، إلى جانب شبكة صواريخ أرض ـ جو روسية يتم حالياً الإسراع في بنائها لمواجهة الطيران الإسرائيلي.
هذا العرض بعضه قديم. لكن المهم في هذا العرض، الجانب السياسي ـ العسكري منه. والمعلومات التي يحملها القادمون من دمشق تقول: "انّ الرئيس حافظ الأسد عمل طوال ثلاثين عاماً لإقامة توازن استراتيجي مع اسرائيل لكنه لم يحققه، واضطر للتفاوض مع الاسرائيليين معتمداً على خبرته وحنكته واصراره على تحقيق ما يريد حتى ولو أنتج ذلك فشلاً نهائياً، كما حصل في مؤتمر جنيف. أما الرئيس الابن بشار الأسد، فإنه استفاد من التغيّرات، وهو عمل ويعمل لإقامة "توازن رعب" مع اسرائيل بمساعدة الايرانيين، وخصوصاً أموالهم التي سهّلت له دفع ثمن العقود العسكرية مع موسكو نقداً.
نتيجة لهذا "التوازن"، فإن اسرائيل ستحسب ألف حساب قبل الدخول في حرب مفتوحة مع دمشق. واذا كانت قادرة على تدمير دمشق ومدن سورية عدة وحتى الجزء الأكبر من البنى التحتية فيها، فإن السوريين اصبحوا قادرين الآن على إلحاق الأذى والدمار بالمدن الاسرائيلية. كما لدى دمشق "سلة" أهداف قابلة للتنفيذ بسرعة، منها مطارات عسكرية ومصانع استراتيجية وأخرى أساسية للاقتصاد الاسرائيلي.
ولا شيء يضمن أيضاً، كما يقول القادمون من دمشق، عدم انضمام قوى اخرى الى جانب سوريا، ومنها "حزب الله" في لبنان والمنظمات الفلسطينية، وحتى المجموعات الاسلامية الأصولية التي ستجد في الحرب ضد اسرائيل تحقيقاً لأهدافها التي أدرجتها قبل نحو العام في بياناتها. والأهم من كل ذلك، فإن الدول العربية ستكون مضطرة، برضاها أو من دونه، لدعمها والوقوف الى جانبها. وبذلك تعود دمشق الى سابق عهدها، "قلب العروبة النابض"، فتتحول الخسائر الى "منجم ذهب" جديد. وليس هناك اكثر قدرة من "التاجر الدمشقي"، على استثمار مثل هذا "المنجم".
"التفاوض بالنار"
جميع هذه المعلومات والتسريبات، جزء من لعبة الحرب والسلام، أو الأصح "التفاوض بالنار"، لأن دمشق نفسها، وعبر القادمين منها، يؤكدون النشاط السياسي والديبلوماسي السوري للدفع باتجاه عقد مؤتمر دولي تحضره ويكون التفاوض على "حزمة" الملفات كلها رغم أولوية أحدها على سواها، مثل لبنان بالنسبة لدمشق، والعراق بالنسبة لطهران.
وترى دمشق في باريس ـ الساركوزية، أفضل "لاعب" لدفع مسار المفاوضات الى مداه النهائي، ذلك ان الرئيس ساركوزي يطمح ويعمل للعب دور أساسي في هذا المسار، وانه تحادث فعلاً مع الرئيس جورج بوش حوله. وأن طرح باريس فكرة عقد مؤتمر اقليمي ـ دولي ـ لبناني، تشارك فيه دمشق لحل الأزمة اللبنانية هو محاولة جدية لادخالها من "النافذة" اللبنانية، تمهيداً لعقد المؤتمر الدولي الواسع، الذي ستكون فيه المفاوضات على "حزمة" الملفات والأزمات في المنطقة.
دمشق، تكرر ما كانت تفعله موسكو السوفياتية. أي "الطرق" بالصواريخ وبالأسلحة وتحديداً التهديد بالحرب، على طاولة المفاوضات لتسريع مسار المفاوضات ووضعه تحت ضغوط عالية تسهل المقايضات، التي تبدأ هنا بسلامة النظام والعودة الكاملة الى الشرعية الدولية وصولاً الى لبنان مروراً بغزة والعراق.
الإمساك بصمام أمان القنبلة والتهديد بها طلباً للتفاوض، لعبة خطرة جداً تتطلب حنكة واسعة وعميقة وأعصاباً حديدية، والأهم صبراً موازياً من الأطراف الأخرى. ومشكلة دمشق الكبيرة حالياً انها لم تعد أحادية مع الولايات المتحدة، التي بدأ صبرها ينفد، بل أيضاً وهو الأخطر، مع الجسم الفاعل والمؤثر العربي، أي السعودية. ولذلك، عليها الآن تسوية ازمتها وبسرعة مع الرياض حتى لا توصد كل الأبواب في وجهها. حتى باريس، ومهما بلغت طموحات الرئيس ساركوزي، لا تستطيع القفز فوق "الحاجز العربي"، فتخسر دمشق بذلك، رهانها، على فتح أبواب التفاوض، وتضطر للوقوف في مواجهة الواقع المرّ. فإذا هي أشعلت الحرب، فالثمن باهظ جداً، خصوصاً أن المجتمع السوري قد أهمل بناؤه لمواجهة أخطار المقاومة وأعبائها .
يبقى لبنان، الذي لم ينجح الأفرقاء في تسييجه داخلياً في وقت يرتفع فيه السياج الخارجي حوله ليخنقه. فإذا حاربت دمشق، فلا بد ان يدفع لبنان جزءاً من الثمن، خصوصاً أن "المفاجأة" التي تحدث عنها السيد حسن نصرالله هي "مفاجأة" بحجم الحروب الاقليمية وليست المحدودة على مساحة لبنان. واذا نجحت دمشق في التفاوض، فإن لبنان ومستقبله هما الملف الأهم، في المقايضة. والخسارة واقعة في الحالتين، على جميع اللبنانيين، مهما اعتقد أي فريق أنه رابح.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.