الديبلوماسية الفرنسية المتحرّكة لإخراج لبنان من الأزمة، مستمرّة وهي ستنشط خلال الأيام القليلة المقبلة. هذا التوجّه الذي قاله الرئيس نيكولا ساركوزي بوضوح ليس هو الجديد، لأن ما بدأته هذه الديبلوماسية باندفاع وتصميم، لن يتوقف لأن "الوضع قاتم" في لبنان، بالعكس النشاط سيتضاعف حتى لا ينتج هذا "الوضع القاتم"، انزلاقاً نحو المجهول.
الجديد، ان الرئيس نيكولا ساركوزي أزال في اليوم المئة من ولايته، الغموض الذي أحاط بتحرك الديبلوماسية الفرنسية واندفاعها السريع للعثور على حلّ للأزمة اللبنانية. فقد تصوّرت بعض القوى وفي مقدمها دمشق، ان خروج الرئيس "جاك شيراك" من قصر الاليزيه، يعني تغييراً انقلابياً في السياسة الفرنسية، كأن شيراك كان ينفذ سياسة شخصية وليس سياسة للدولة الفرنسية وأن كل ما كان يميّزها هو هذه "الحرارة الشيراكية" في التعامل مع الحدث خصوصاً مع حدث يثير مشاعر شخصية". أو كان التغيير الرئاسي في فرنسا هو نتاج انقلاب عسكري يقلب الطاولة كلها وليس نتاج إرادة حرّة للناخبين، وفي اطار التقاليد العريقة للديموقراطية الفرنسية.
حليفة غير منحازة
الخطاب التقليدي لرئيس الجمهورية أمام "الجسم الديبلوماسي" الفرنسي، يعني ان "خريطة طريق" للسياسة الفرنسية الخارجية قد وضعت له وعلى كل عضو في هذا "الجسم" التحرك وفق إشاراتها الخضراء والتوقف عند إشاراتها الحمراء. ولذلك فإن هذا الخطاب التقليدي يدرس بعناية شديدة من طرف السفراء الفرنسيين المعتمدين في العالم، كما ان عواصم العالم تحدّد لنفسها مسارات لتعاملها مع فرنسا طوال العام الديبلوماسي الذي بدأ أمس ويستمر حتى نهاية العطلة من العام المقبل.
فرنسا "حليفة" للولايات المتحدة الأميركية، ولكنها ليست "منحازة" لها. هذه قاعدة أولى "للساركوزية" بعد أن اتهم بسبب "إستعجاله" المشهور عنه، بأنه يريد قلب السياسة الديغولية من الحليف الأميركي، طبعاً ساركوزي عاد في ذلك إلى الينابيع، بسبب دقة هذه العلاقة وعدم امكانية اللعب عليها سياسياً وخصوصاً شعبياً، فالفرنسيون لا يتحملون أي انحياز إلى الأميركيين لأن مشاعرهم القومية والسياسية التاريخية تحول دون ذلك.
وساركوزي الذي لا يعرف عنه الشعور الأوروبي العميق، عاد بعد مئة يوم من الاستطلاع والتعامل إلى "قواعد" فرنسا سالماً فأكد انه "لا توجد فرنسا قوية من دون أوروبا ولا أوروبا قوية بلا فرنسا". الجديد الكبير في خطاب ساركوزي، هو تأكيده أنه "صديق لإسرائيل" وهذه "الصداقة" ربما ليست جديدة لدى بعض رؤساء الجمهورية الخامسة وفي مقدمهم فرنسوا ميتران، لكن الجديد هو "نصب علم هذه الصداقة في قلب قصر الاليزيه". ويبدو ان ساركوزي يعول كثيراً على هذه "الصداقة" لأخذ دور كبير له ولفرنسا في صياغة حل ينهي النزاع العربي ـ الإسرائيلي يقوم على وجود دولتين إسرائيلية وفلسطينية تكون الأخيرة قابلة فيها للعيش.
العودة من "الباب"
بعد أن وضع ساركوزي "زوايا" "خريطة الطريق" لسياسته الخارجية، استعاض في رسم المسارات عاصمة بعد عاصمة، والأهم بالنسبة للبنانيين انه بكلمات قليلة أسقط كل ما قيل عن استعداده لمقايضة لبنان بالعلاقات مع دمشق، كما حاولت قوى عديدة وفي مقدمها دمشق الايحاء بها مع كل جولة قام بها السفير جان كلو كوسران إلى المنطقة.
الآن كل شيء واضح، ما طرحه ساركوزي هو بعكس ما خيل للبعض. ذلك ان عودة دمشق من "النافذة" اللبنانية لا يعني تسليماً لها للبنان الذي تريده. فقد وضع ساركوزي مساراً واحداً أمام دمشق وليس مسارين، وهذا المسار المرسوم بكل دقة مع تحديد واضح لكل إشارة فيه يسمح لدمشق بالعودة من "الباب" بوضوح مبني على:
* تمسك فرنسا بشدّة بحرية واستقلال وسيادة لبنان.
* أن تسير دمشق مع كل الفرقاء الإقليميين في تنفيذ عملية انتخاب رئيس للجمهورية فقد أصبح واضحاً أن انتخابا لرئيس هو في قلب الحل للأزمة. ومن يعمل له، يعمل للحل ومن يعرقله يريد استمرار الأزمة مفتوحة على كل المخاطر.
طبعاً لم ينس ساركوزي إعادة التأكيد على صداقة فرنسا لجميع اللبنانيين وضمناً "حزب الله" وفي ذلك "رسالة" تطمين للحزب بأن مكانه محفوظ بكل ما يعني من ترجمة له أوروبياً ودولياً، طالما كان شريكاً في الحل وفي حصول لبنان على كامل حريته واستقلاله وسيادته.
كوشنير وآلية التنفيذ
الرئيس الفرنسي يرسم السياسة الخارجية ووزير خارجيته ينفذها بطريقته، ولذلك فإن ما لا يقوله الرئيس بوضوح يتولى الوزير كوشنير أو مساعدوه تسريبه. ومن ذلك أن على دمشق العمل لكي يدخل السلام إلى لبنان، ولذلك يجب أن تتوقف سياسة الترهيب والاغتيالات فيه وأن تساهم بجدية عبر حلفائها على انتخاب رئيس جديد ضمن المهل الدستورية. اما "حصة" دمشق في الرئيس المنتخب، طالما، أن لها "كلمة" في ذلك فهي كما قال ساركوزي "قدرته على العمل مع شركاء لبنان الكبار" وبوضوح أكثر مع دمشق.
ويبدو الآن واضحاً أن مطالبة دمشق بالمساهمة في ضمان الأمن لم تعد مقتصرة على طرف أو جهة، خصوصاً وأنها استثمرت بنجاح كبير الفوضى الأمنية في العراق ولبنان وغزة لتعود إلى المجتمع الدولي مفاوضاً له حقوقه ولكن ايضاً عليه واجبات. ومن ذلك أن نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي كان قد طالب دمشق بدور في ضمان الأمن العراقي عبر "فعل المزيد بكل ما يتعلق بالحدود المشتركة مقابل عقود ضخمة اقتصادية ونفطية".
المعادلة الدولية أمام دمشق تزداد وضوحاً. المساهمة في ضمان الأمن للآخرين مقابل الشرعية والعقود الاقتصادية. فهل دمشق مستعدة للسير في هذا المسار المنتج مستقبلياً، أم انها تجد في نفسها القدرة على متابعة سياستها لكي يكون "حصادها" أكبر، طالما أن بداية الاعتراف بدورها، أخذ يتبلور في عروض شروطها صعبة مثل كل البدايات التي تكون عادة الخطوات الأولى فيها صعبة، وفي هذا مغامرة نتائجها غير مضمونة لأن كل رفض وتصعيد سيقابله مزيد من الرفض والحصار والتصعيد.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.