إلى أي درجة يجب أن يشعر العرب بالغيرة والحسد من التجربة التركية، بعد انتخاب عبدالله غول رئيساً للجمهورية في تركيا؟
لا شك في ان درجة الغيرة والحسد يجب أن تكون كبيرة لكن مع امتزاج هذا الشعور بنوع من الإعجاب الشديد. وهذا الشعور المتناقض يسود مختلف الأوساط العربية بالتجربة التركية، بعيداً عن عقد التاريخ وتعقيداته، وتداخل الجغرافيا وأحكامها. هذا الشعور العربي متنوّع ومختلف، باختلاف الأطياف العربية.
الحلم العربي
ولا شك في ان نقطة مركزية تجمع العرب على مختلف أطيافهم من خلال ملاحقتهم للحدث التركي وهي النجاح الكامل إلى درجة الكمال لعملية تداول السلطة وفقاً لأعرق قواعد الديموقراطية. حتى الأمس القريب كان العرب والأتراك في "الهوى سواء"، كما يقول المثل الشعبي، فقد كان يكفي أي اختلال داخلي حتى يقفز العسكر إلى السلطة، ليعيد اللعبة إلى ثكناته. خلال هذا المسار الطويل من المعاناة، استطاع الأتراك رغم بقاء المؤسسة العسكرية قوة قوية ممسكة بمفاصل عديدة من السلطة، أن يفرضوا موقفهم دون أن يهينوا هذه المؤسسة، فليس أخطر من مواجهة "نمر جريح".
هذا التداول الهادئ للسلطة، ما زال حلماً يراود جميع الأطياف العربية، وهو كما يبدو بعيداً ليس فقط بسبب العسكر، ولكن أيضاً بسبب عدم نضوج القوى السياسية القائمة من أحزاب وطوائف لتقبل هذا التداول الذي يعني عدم الديمومة في السلطة التي تعني وكما أثبتت كل التجارب من انتشار للفساد والكسل والفراغ وتلاشي الرؤى والمشاريع المستقبلية.
ولعل ما يجري في لبنان حالياً يؤشر إلى هذه الاستحالة، ذلك ان مجرّد الكلام كحلّ للأزمة التي وصلت مفاعيلها إلى أعلى درجات الحرب الأهلية الباردة، على ضرورة التوافق والاتفاق والمشاركة الكاملة تبعاً لأوزان أحجام الطوائف وتمثيلها يعني إلغاء لمبدأ الديموقراطية وأحكامها وهو وجود أغلبية حاكمة وأقلية معارضة مرشدة وناشطة داخل المجتمع للتحول مستقبلاً إلى أغلبية تستحق استلام السلطة وفقاً للقاعدة المضيئة للديموقراطية وهي تداول السلطة.
احترام مؤسسات الدولة
والدرس الكبير لكل القوى العربية أيضاً وخصوصاً للبنانيين منهم من هذه التجربة التركية، هي ان وجود الدولة بكل مؤسساتها، التي تنبع قوتها الأساسية من احترام كل سلطة للأخرى حتى ولو بلغ التعارض درجة الرفض في ما بينها، هو الضامن الكبير لجميع القوى حضوراً وممارسة ودوراً. ولعل مشاركة "حزب العمل القومي" اليميني بالانتخابات الرئاسية التركية حتى الدورة الأخيرة رغم علمه المسبق ليس فقط بفشل مرشحه وإنما أيضاً بالفوز الثابت لخصمه السياسي والفكري الأول بالرئاسة، يدل على عمق الشعور لدى الأتراك بالدولة وأهميتها وضرورة احترام مؤسساتها عبر احترام دقيق للعبتها، لأن المقاطعة مهما كانت أسبابها هي إسقاط للدولة قبل أي شيء آخر.
طبعاً الإسلاميون العرب على مختلف أطيافهم أيضاً ومشاربهم يرون في فوز عبدالله غول، أملاً كبيراً لهم في تسلم السلطة في بلادهم. لكن هذه القوى ما زال أمامها الكثير لتتعلمه من التجربة التركية وخصوصاً من المسار السياسي لحزب "العدالة والتنمية" الواعي لكل قواعد الديموقراطية وشروطها.
فحزب "العدالة والتنمية" لم يخرج حتى في أصعب اللحظات التي كان وجوده فيها مهدداً كما حصل مع الأحزاب الإسلامية التي سبقته، كما لم تنجح كل الأحداث وحتى المغريات عن تحويل لاتجاه بوصلته فقد اختار الديموقراطية "سلاحاً" له للتغيير، ولم يغير هذا "السلاح".
القبول بالآخر
ولا شك في ان أمام الإسلاميين وأحزابهم ومنظماتهم في العالم العربي، الكثير من الجهود وحتى التضحيات للوصول إلى "الدرجة التركية" في فن قبول الآخر وفي القدرة على التعامل مع الآخر وفقاً لأحكام الدستور. ولعل ما حصل في غزة مع انقضاض حركة حماس على السلطة بقوة السلاح، يؤكد مهما أعطي هذا الفعل من أسباب وموجبات أن الخوف لدى الغالبية من المجتمعات العربية من تسلم القوى الاسلامية للسلطة، يبدو مشروعاً. وما عزز ويعزّز ذلك، ممارسات "حركة حماس" في غزة التي تجنح أحياناً الى ممارسات "طالبان" داخل المجتمع الأفغاني قبل تذكر ممارساتها للسلطة سابقاً. ولا شك في ان الفارق كبير بين التجربة التركية ومعها حزب "العدالة والتنمية"، والدعاوى وحتى الممارسات اليومية الحالية الجارية في غزة. واذا ما أضيف الى ذلك تجربة "الامارة الاسلامية" في الأنبار، وما يتناقله العراقيون الهاربون من جحيمها من ممارسات يومية تتجاوز في تخلفها أكثر الأيام السوداء في تاريخ القرون الوسطى ومن يوميات الامبراطورية العثمانية، يطيح كل آمال الاسلاميين. (من هذه الممارسات تحريم السلطة لأنه لا يجوز الجمع بين الخيار المذكر والبندورة المؤنث).
غياب مصر
منذ الآن يجب متابعة التجربة التركية عربياً بكل دقة، وهذه الدعوة مفتوحة لكل الأحزاب والقوى العربية وخصوصاً الاسلامية منها. لأن في تركيا اليوم يُصاغ فصلٌ جديدٌ في تاريخ منطقة الشرق الأوسط. وبناء على ما سيكتب في هذا الفصل، يمكن التأسيس عليه في المنطقة. ومما يجعل من هذه الدعوة واجباً أن تركيا التي كانت تاريخياً زاوية مهمة في "مثلث" العواصم التي تدير المنطقة وهي مصر وايران، اكتسبت اليوم حضوراً أكبر ودوراً أفعل، خصوصاً مع تراجع دور مصر الى درجة غيابها، إلى جانب أن تل أبيب قد احتلت عنوة الزاوية الثالثة في مثلث ادارة المنطقة فأصبحت مدنٌ غير عربية تفرض استراتيجياتها على العرب.
ويبدو ان عودة مصر الى دورها وتفعيله لا يمكن أن يتم سوى من خلال المشاركة مع الرياض التي أصبحت سياستها متحركة وديبلوماسيتها ناشطة. اذ لا يجوز مطلقاً أن يغيب العرب عن زوايا مثلث ادارة المنطقة والتسليم بذلك.
يبقى أن لبنان الذي يعيش تجربة صعبة حالياً على وقع الاستحقاق الكبير وهو انتخابات رئاسة الجمهورية، أن يتمثل بما جرى في تركيا التي لم يهم أحزابها وقواها إرضاء العسكر داخلياً ولا الولايات المتحدة الأميركية خارجياً. همّ الأتراك كان ضمان مستقبل تركيا ودخولها بهدوء "زمن الورد".
أولى القواعد التي يجب الأخذ بها لبنانياً، القبول بتداول السلطة مساراً لضمان أمن الوطن واستقلاله بدلاً من التهديد بالإلغاء أو بالتقسيم حلاً للأزمة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.