التقرير الذي رفعه السفير جان كلود كوسران لدى عودته من بيروت إلى وزير الخارجية برنار كوشنير "قدم صورة قاتمة عن المشاورات التي أجراها طوال أيام ثلاثة مع قادة وممثلي كافة الاحزاب والقوى اللبنانية". وأعادت الديبلوماسية الفرنسية هذه الصورة إلى "التعقيدات والتشاؤم المهيمنين على الوضع كله في لبنان".
وأكثر التعقيدات المنتجة لهذا التشاؤم الكبير والعميق ان باريس تأخذ بجدية كبيرة التهديدات التي تواجه المؤسسات اللبنانية خصوصاً إذا لم يتم التوصل إلى انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهل الدستورية، مما سيؤدي حكماً إلى ازدواج حكومي معارض وأكثري، مع ما يعني ذلك من تشريع الساحة اللبنانية باتجاه كل المخاطر. ولذلك، فإن باريس وهي تدعو إلى تحصين لبنان من هذه المخاطر ترى أن الحل هو في "انتخاب رئيس وفاقي قادر على التعبير عن وحدة اللبنانيين والمؤسسات". وهو ما اختصره الرئيس نيكولا ساركوزي بقوله "انتخاب رئيس يعترف به اللبنانيون ويمثلهم جميعاً وقادر على العمل مع الجميع".
انتظار التطوّرات
أمام هذا الوضع كما تقول مصادر فرنسية مطلعة، نصح السفير ـ الموفد جان كلود كوسران وزير الخارجية كوشنير بتأجيل زيارته إلى لبنان التي كانت مقررة مبدئياً في أواخر الشهر الماضي إلى أواسط أيلول الجاري، إذ "ربما تنتج التطورات ممراً لنجاح يمكّن الديبلوماسية تحقيقه وهو ما حصل فعلاً، إذ مضى شهر آب ولم يحضر الوزير الفرنسي إلى بيروت، ولعل أكثر ما أربك الديبلوماسية الفرنسية لعدم الاستعجال، أن كوسران انتظر طويلاً من الرئيس نبيه بري "ابلاغه ببلورة مبادرة ولو في خطوطها العامة". لكن ذلك لم يحصل أيضاً. ويبدو الآن أن الرئيس نبيه بري فضّل تقديم "مبادرة متكاملة" في احتفال بعلبك تأكيداً لموقفه بأن تكون "مبادرة لبنانية صرفة"، لكن الرئيس نبيه بري قدّم لمبادرته هذه "بشرط لازم يقضي بضرورة انجاز مصالحة سعودية ـ سورية لأن تصفية الخلافات وإعادة العلاقات ضرورة تاريخية، خصوصاً وأن لبنان أكثر المتأثرين بهذا الخلاف".
حل الخلاف السوري ـ السعودي أمر يتجاوز لبنان، حتى ولو كان حله يفيده. مثلما أن حل الخلاف السوري ـ الفرنسي والأميركي، أمر يعود إلى دمشق أولاً وأخيراً، المشكلة أن "بوابة" حل هذا الخلاف هي لبنان. وبعكس ما كان يجري في السابق، عندما كانت دمشق تعرض والآخرون يقبلون، فإن العرض هذه المرة جاء من الرئيس نيكولا ساركوزي.
العرض الايجابي
وجدت دمشق في "العرض الفرنسي موقفاً ايجابياً يمكن البناء عليه". وأساس هذا العرض "انخراط دمشق في طريق يؤدي إلى انتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية وبمقتضى الدستور"، لكن هذا العرض "ليس سوى مسار للعمل عليه، كما تقول مصادر فرنسية مطلعة، إذ يبقى معرفة الشروط الملزمة للسير عليه".
هنا، يرى مصدر فرنسي مطلع ان الشرط الملزم لفتح هذا المسار والحوار حول انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان هو في "توقف دمشق عن الاغتيالات وخصوصاً ضد القوى التي تعارض نفوذها في لبنان"، وحتى وقف "محدلة الموت" لا يكفي، إذ المطلوب من دمشق "وقف التهديدات اليومية ضد القوى والشخصيات المعارضة لها ولنفوذها".
وأكثر ما يزعج باريس حالياً من هذه التهديدات الأخيرة منها "ضد الديبلوماسيين"، وكان آخرها وأبرزها ضد سفيري المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة. وتجد باريس تبعاً للمصدر المطلع في كل هذه التهديدات "خريطة طريق هدفها افراغ لبنان من التواجد الدولي المحيط بالشرعية اللبنانية". والمعروف أن تركيزاً كبيراً من بعض قوى المعارضة الى جانب دمشق في الهجوم على قوى 14 آذار والحكومة التي يترأسها الرئيس فؤاد السنيورة يجري حول هذا الاحتضان الدولي للحكومة والاعتراف بشرعيتها في وقت قاطع فيها المجتمع الدولي الرئيس إميل لحود من جهة ودمشق من جهة أخرى.
الكرة الآن في ملعب دمشق، وهي لا يمكنها ان تأخذ من العرض الفرنسي ما يحلو لها وتريده، وتعيد بالبريد المضمون الى باريس ما لا ترغب به وترفضه.
العلاقات الطبيعية
العرض الفرنسي واضح جداً أساسه لا علاقات طبيعية وكاملة مع دمشق مستقلة عن الملف اللبناني. وبهذا، فإن العرض هو "حزمة واحدة" لا يمكن التعامل معه الا كما هو. فغاية باريس ليست في مقايضة لبنان لربح دمشق، وإنما المحافظة على لبنان لكي تربح دمشق نفسها من خلال حوار يعيدها الى قلب الشرعية الدولية بكل ما يعني ذلك من اغراءات سياسية واقتصادية. وفي الوقت نفسه، فإن باريس تقدم ضمانة كاملة بأن الرئيس المقبل للجمهورية اللبنانية لن يكون خصماً لها لا بل مطلوب منه القدرة على العمل مع الجميع أي بما فيها دمشق.
اذا قبلت دمشق "الحزمة" الفرنسية، فإنه يمكن عندئذ "نقل الحوار من المستوى الديبلوماسي الى المستوى السياسي". ومعنى ذلك ان السفير جان كلود كوسران الذي زار دمشق والذي قد يزورها مستقبلاً يبقى الحوار معه تحت السقف الديبلوماسي حتى ينضج الحوار، وعندها يقوم الوزير برنار كوشنير بزيارة دمشق والتحاور معها حول كافة الملفات.
وهذه النقلة النوعية في العلاقات، تعني فتح الحوار بطريقة مواربة مع واشنطن، أما اللعب على امكانية تحقيق خرق من دمشق للتحالف الفرنسي ـ الأميركي، فإنه أصبح أمراً مستحيلاً خصوصاً بالنسبة لباريس الساركوزية، وتريد باريس من دمشق عدم اللعب أيضاً على الوقت لتستهلكه في مناورات أساسها غرق "الحليف الأميركي" في العراق. فالمطلوب ان تعمل دمشق بجدية كبيرة للتوصل الى نتائج ايجابية، خصوصاً وأن استحقاق الانتخابات الرئاسية في لبنان يكاد يتوافق مع الاستحقاق الآخر والمهم كثيراً لدمشق وللمنطقة وهو انعقاد المؤتمر الدولي المطروح حول الشرق الأوسط.
ولا شك كما تقول المصادر الفرنسية المطلعة ان العبور بنجاح الى المؤتمر الدولي وطرح عملية استعادة دمشق للجولان سلماً، يمرّ حكماً بإنجاح الاستحقاق الرئاسي اللبناني. أما اذا أصرّت دمشق على اعتماد المناورة والاحتفاظ بالكرة حتى انتهاء الوقت الضائع، فإن لبنان لن يكون وحده هذه المرة ساحة مفتوحة على كل المخاطر بل منطقة الشرق الأوسط كلها وبطبيعة الحال دمشق.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.