برنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي، يحب "الخبطات الاعلامية" منذ كان يتعمد حمل كيس الطحين أمام عدسات الكاميرا وهو يرأس منظمة "أطباء بلا حدود". لكن بالتأكيد ليس هذا "الحب" وحده هو الذي دفع الوزير الفرنسي لهذا التصريح "الحربي" ضد ايران.
التهديد "بالحرب" ليس مجرد لعبة اعلامية، وهو خصوصاً ليس حرفة للدبلوماسية الفرنسية. لذلك فإن قراءة هذا الاعلان بكثير من الواقعية السياسية مطلوب خصوصاً وأن الحرب اذا نشبت ضد ايران لن تكون فرنسية، "فالصقور" الأميركيون بقيادة نائب الرئيس ديك تشيني هم المحترفون ولا يقبلون قادة للحرب غير قيادتهم. لكن المشاركة الفرنسية ولو عبر الاعلام مفيدة وقابلة للاستثمار بقوة لتشريع الحرب لدى الرأي العام الأميركي، وما يزيد من مشروعية هذه الحرب أميركياً ان الحليف الذي عارض الغزو الأميركي للعراق، هو الآن "المطبّل" لها.
حرارة درامية
برنار كوشنير الآتي من الحزب الاشتراكي، لا يمكن أن يخرج في خطابه عن خطاب رئيسه. فقد كان هذا التوافق بنداً أساسياً من دعوته للمشاركة في الحكومة ومن قبوله بها رغم الثمن الكبير الذي دفعه "التعري من ثوبه الاشتراكي".. في تهديدات كوشنير "بالحرب" شيء كثير من الدرامية. ذلك أن رفع درجة الحرارة سياسياً لا تعني بالضرورة حرق "الطبخة" بقدر ما تكون محاولة للضغط باتجاه تحقيق هدف آخر وهو تسريع مشاركة الطرف الآخر في تحضير "الطبخة".
الرئيس نيكولا ساركوزي "حليف صادق" للرئيس الأميركي جورج بوش. وهو اذا كان لا يريد التحاق فرنسا بالولايات المتحدة الأميركية، فإنه على الأقل يريدها أكثر انسجاماً والتحاماً بها من سلفه الرئيس جاك شيراك. ساركوزي يدرك جيداً ان حليفه بوش "لم يعد لديه استراتيجية في العراق. ولذلك يغيب عن خطابه كلمتي الانسحاب والانتصار". وهذا الوضع لم يعد بشكل مفاجأة بقدر ما يشكل للجميع خيبة أمل كبيرة خصوصاً وأن أهداف بوش الرئيسية تسليم "المستنقع العراقي" كما هو وربما أكثر اتساعاً وعمقاً لخليفته.
أخطر من عملية التسليم هذه، ان ايران تزداد قوة، وهي تمد يدها احياناً علانية الي "الكستناء" الأميركية سواء في العراق أو أفغانستان، وبالتنسيق مع دمشق في لبنان وفلسطين، حتى ولو اختلفت احياناً نوعية "الكراسي الموسيقية" التي يتم العزف على وقعها في هذه الناحية أو تلك.
المهم،ان باريس، الساركوزية قلقة جداً من "الصقور" في الادارة الأميركية. وهي اذ تميل الى استبعاد الحل الحربي رغم خطاب كوشنير الحربي، الا انها صادقة مئة بالمئة في منع ايران من الحصول على السلاح النووي، علماً انها ترى أي عملية تخصيب ولو لأغراض سلمية، تشكل مفتاحاً حتمياً للحصول على هذا السلاح. ولذلك كله فإن التحذير من خطر الحرب هو للالتفاف على خطر حرب قائمة.
البديل: مزيد من الضغوط
البديل لهذا الخيار، هو في توجيه مزيد من الضغوط على الطرفين المعنيين، وهما دمشق وطهران وكل منهما بما يتناسب حجمه ودوره وطموحه. فلدمشق الوعود "بالانفتاح المتزاوج مع مزيد من التحذيرات" والمطلوب أولاً وقبل أي شيء آخر احترام "سيادة لبنان التي تبدأ مع انجاز الانتخابات الرئاسية بدون تدخل، اي بما ينسجم أصلاً مع القرار الاممي 1559، والذي لم تلتزم به دمشق فأصرت على تمديد ولاية الرئيس اميل لحود، وباقي القصة أصبحت معروفة مثل قصة "موت معلن"، ولا يمكن عزل كل هذه السياسة عن الغارة الاسرائيلية على أقصى شمال سوريا التي مهما كانت أسبابها تبقى مرفوضة، لكن أيضاً لا يمكن اغفالها خصوصاً وانها "رسالة" تقرأ بوضوح من عنوانها.
أما بالنسبة لطهران، فإن باريس ترغب وتريد اعتماد سياسة العقوبات الاقتصادية بدلاً من الحرب. وهي تصوب بهذا الاتجاه رغم ان صوت اطلاق "المدفع" يؤشر بغير ذلك. وبهذه السياسة تعمل باريس على صب الماء في طاحونة التيار الأميركي المنادي بالضربات التي ان لم يكن من الممكن تحقيقها بقرار دولي في مجلس الأمن فلتكن بقرارات منفردة انما منسقة ومتضامنة ومتكافلة للدول المستعدة للسير في مثل هذه الاستراتيجية.
ويرى المنظرون من كبار أعضاء الكونغرس الأميركي والذين تتفق معهم باريس الساركوزية لهذه السياسة انه يجب تنفيذ "عملية" قتل رحيم للاقتصاد الايراني"، وان هذه العملية ممكنة جداً خصوصاً وان "اداء الاقتصاد الايراني في السنوات الخمس الأخيرة هو أداء باهت، وان الانحدار مستمر في قطاع النفط".
وتقوم الخطة الأميركية التي تتزعم باريس عملية ضم الدول الأوروبية اليها بقوة على "تجريد الاقتصاد الايراني من الاستثمارات الأجنبية"، ولذلك دعا كوشنير الشركات الفرنسية الى عدم الاستثمار في الاقتصاد الايراني، وبقول "صقور" الحرب الاقتصادية ضد ايران في واشنطن، ان "التجريد" عملية أكثر تعقيداً وأشد أثراً وفتكاً من الحصار والمقاطعة لأنها تعني اقناع الشركات الكبرى في العالم بأن الاستثمار في ايران "يشكل مخاطرة كبيرة على مستقبلهم المالي، وان مثل هذه السياسة اتبعت بمبادرة خاصة من حكام ولايات أميركية كما حصل في ميسوري وفي فلوريدا وقد نجحت في انسحاب شركات عديدة من الاستثمار في ايران خوفاً من العقوبات الداخلية مثل طرد الشركة من قائمة بيع الأسهم في ولاية ميسوري".
شل قطاع النفط
وتصوب هذه السياسة على ثلاثة أنواع رئيسة من الكيانات الاقتصادية التي تستثمر في ايران وهي:
* الشركات التي تستثمر في قطاع النفط وتبلغ استثماراتها نحو عشرين مليار دولار.
* الشركات العابرة للقارات، وهذه وان كانت قادرة على المقاومة الا ان تشريعات تؤدي الى فرص عقوبات عليها سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو في الدول المنخرطة في استراتيجية "الموت الرحيم" تؤدي الى تسليمها بالمقاطعة.
* استهداف شركات لدول غير مشاركة في هذه الاستراتيجية وهي روسية وصينية ويابانية وحتى يابانية.
مشكلة باريس الساركوزية أوروبية أولاً وأساساً لأن العديد من الدول الأوروبية لا ترغب بالانضمام الى سياسة المقاطعة المنفردة غير المستندة الى قرار دولي. وقد بدأت تظهر هذه المعارضة في النمسا ويمكن أن تتبلور أكثر فأكثر في ايطاليا واسبانيا. هذا عدا المعارضة الفرنسية الداخلية للانخراط في السياسة الأميركية الى هذه الدرجة وبمثل هذه الحدة.
سواء اشتعلت الحرب فركب جورج بوش "رأسه" وسار مع "صقوره"، أو أعلنت الحرب بطريقة أخرى وهي تحت "الحرب الناعمة" حيناً المعتمدة على اشعال مصادمات قومية ايرانية ـ ايرانية أو تنفيذ استراتيجية "الموت الرحيم"، فإن معنى ذلك ان حرباً قد وقعت، وان ردًا ايرانيًا لا بد أن يقع. كل ذلك ولبنان محشور في "عنق الزجاجة" ولا داعي للدخول في تفاصيل السيناريوات المتوقعة لأنها عندئذ كلها ستكون من نوع انزلاق المنطقة وليس لبنان وحده نحو "عالم بلا أمل".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.