8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

سوابق دمشق طوال ثلاثة عقود وعدم تراجعها يجعل من كل جريمة مضبطة اتهام ضدها

لماذا تُتهم دمشق، منذ 14 شباط 2005 عندما اغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وحتى اغتيال النائب الشهيد أنطوان غانم، وربما حتى ينتهي مسلسل الإجرام والاغتيالات، بأنها وراء هذه الجرائم تخطيطاً وتنفيذاً؟
هل "التوظيف السياسي" لهذه الجرائم من طرف قوى 14 آذار، يكفي لإعلان "مضبطة الاتهام" ضد دمشق دون ترك ولا احتمال واحد في المئة لوجود متهم آخر؟
لماذا تتابع دمشق تنفيذ هذا المسلسل الدموي بما أنها المتهم القابع في قفص الاتهام، طالما أنه لم ينجح في كسر إرادة قوى 14 آذار ودفعها للتسليم لإرادتها وشروطها غير المعلنة رسمياً لكنها معروفة جداً من كل لبناني؟
هل يكفي أن يكون لبنان "ساحة مجانية" للصراعات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية، حتى يكون الاغتيال السياسي سهلاً الى هذه الدرجة؟
"جسم دمشق لبيس"
هذه الأسئلة بعض من "سلة" الأسئلة الكبيرة حول هذه الجرائم وموقع دمشق منها. ولا يكفي مطلقاً أن يُقال "إن جسم دمشق لبيس" كما في المثل الشعبي، حتى يقوم النفي الضمني، لأن القضية وهي قضية بقاء وطن أم عدم بقائه لا تستقيم بمثل هذه الإجابة.
طبعاً، ومن سابع المستحيلات، ومهما بلغت "عقلية التآمر" لدى قوى 14 آذار ومازوشيتها وكربلائيتها، أن تكون هي المتآمرة على نفسها كما توحي دمشق عندما تتهمها فور وقوع الجريمة بأنها وراءها، وأن كل اتهاماتها ضد دمشق هي "اتهامات بدون أدلة"، وهي معدة مسبقاً وموضبة لتعلن فور وقوع الجريمة أياً كانت الضحية.
بداية، فإن دمشق هي الطرف الأكثر تورطاً في الشأن اللبناني منذ أكثر من ثلاثة عقود. وقد بلغ من حجم تورطها وعمقه أنها دخلت في تفاصيل التفاصيل لتركيبة "النسيج" اللبناني الشعبي والسياسي والاقتصادي والأمني. وهذه المعرفة والخبرة الدقيقتان لا يمكن لهما أن يقطعا في لحظة واحدة، فالمتابعة مستمرة في الخفاء والقدرة على التحريك دائمة.
إن دمشق وطوال ثلاثة عقود، اعتمدت الاغتيال من جهة وضرب القوى السياسية والميليشياوية ببعضها بناء لـ"خريطة طريق" معدّة بعناية ومعرفة دقيقة وخبرة عميقة، ويكفي العودة الى شريط الأحداث الماضية، للتأكد من صحة هذا التوصيف. فقد دخلت الى لبنان لتسوية الصراع بين الفلسطينيين واللبنانيين مرة، وبواسطة صدامات الميليشيات في شوارع بيروت، وحتى في الجنوب وإقليم التفاح وغيرهما. كما كان الاغتيال السياسي ـ والقائمة طويلة جداً بلا شك ـ سلاحها الفتاك الذي لا يرد أمره من أحد.
"خيمة" السياسة القديمة
وهذه السياسة القديمة هي التي ومنذ اغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تصبح موضع متابعة وملاحقة وتدقيق، لأن ما يحصل الآن يقع تحت "خيمتها"، بحيث لا تسمح ظروف وطبيعة ووسائل تنفيذ هذه الجرائم بالاعتقاد أنها لا تخرج من تحت تلك "الخيمة". فالتقليد مستمر بشكل أو بآخر. ولا شك أن الحسّ الشعبي يلعب هنا دوراً مهماً. فهذا الحس حتى لدى القواعد المتماسكة والبعيدة لـ"حزب الله"، يخرج أحياناً من تحت "عباءة الكتمان" ليذكر بأن كل شيء ممكن، وذكرى "ثكنة حزب الله (فتح الله)" في البسطة ما زالت موجودة في أعماق هذه الذاكرة عندما قتل العشرات من كادرات الحزب بدم بارد في محاولة علنية لوضع خط أحمر أمام الحزب على أرضية تعامله معها.
ولا شك أن المناخ السياسي الذي فرضته دمشق على لبنان منذ عملية التمديد للرئيس إميل لحود والذي وصل الى قمته مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري واستمر بوتيرة متصاعدة، يدفع دائماً لاتهام دمشق. وقد أشار سيرج براميرتس، الذي ما زال حتى الآن برأي دمشق "موضوعياً"، في تقريره ما قبل الأخير الى أن المناخ السياسي هذا لعب دوراً أساسياً في تعبئة الأجواء والدفع نحو ارتكاب جريمة 14 شباط. ولو أن دمشق عملت على تفريغ هذا المناخ من التعبئة والاحتقان، لربما أصبح أكثر صعوبة حصر الاتهامات بها. لكن العكس هو الذي يحصل.
لقد عمدت دمشق وفي ظل حق الدفاع المشروع عن النظام، الى تجاهل كل دروس تجربة النظام الأمني الذي وضعته ونفّذته في لبنان. ولأن النظام الحالي أثبت عدم ذكائه، كما كان الوضع مع نظام الرئيس الأسد الأب، فإنه استمر في التصعيد. ومن ذلك أن الوزير فاروق الشرع الذي افتى بأن القرار 1559 لا يعني دمشق ثم تبين أنه موجه أساساً ضدها، جرى ترفيعه بدلاً من إرساله الى منزله لمراجعة ما ارتكبه من أخطاء. كذلك فإن العميد رستم غزالي "المطرقة الأمنية" لكل ما جرى في لبنان، والذي تحوم "الشبهات" حوله، جرى ترفيعه بعد عودته بدلاً من استثمار فشله في عقاب يردع غيره أولاً ويرفع حجة المساءلة الخارجية عن دمشق. وهذه السياسة غير الذكية هي التي تؤدي الى مزيد من الاتهامات بحقها.
سياسة التحريض
الى جانب ذلك فإن متابعة دمشق لخطابها المعنون بأن قوى 14 آذار هي "منتج إسرائيلي"، إنما يعتبر إعلاناً رسمياً باستباحة دماء هذه القوى أفراداً اليوم وربما جماعات غداً لو أمكن. وقد يكون هذا الخطاب "سلاحاً" لمواجهة حملة قوى 14 آذار ضدها، لكنه في هذه الحالة هو سلاح قاتل يفتح الأبواب على مصاريعها باتجاه تنفيذ سياسة الاغتيالات وتشريعها، بينما خطاب قوى 14 آذار الإعلامي الاتهامي، يبقى نوعاً من الدفاع المشروع عن النفس لا تصل حدوده أكثر بعداً من حدود الكلمة. وفي هذا كله تقع على عاتق دمشق "مسؤولية أخلاقية" قبل أن تكون أو تتحول لتصبح اتهاماً فمسؤولية جنائية.
سؤال أخير، مهما كانت الأسباب عديدة لتوجيه أصابع الاتهام دائماً الى دمشق، فإن سؤالاً طرحه توقيت جريمة اغتيال انطوان غانم بما يتعدى مسألة تخفيض أكثرية الأكثرية وإلغاء مبدأ النصف زائد واحد، هو أن هذه الجريمة وقعت في وقت يتم فيه التحضير للقاء بين وزيري خارجية فرنسا وسوريا برنار كوشنير ووليد المعلم، فكيف يمكن لدمشق أن تسيء لنفسها وتقوم على الدفع باتجاه هكذا جريمة؟
المشكلة أن دمشق التي استعادت طمأنينتها بعد "شهادة حسن السلوك" التي اعلنها ايهود أولمرت، وهي لم تعد تكتفي بأن تقول لها باريس "سيادة لبنان تبدأ من إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان". دمشق تريد من باريس مباشرة ومن الولايات المتحدة الأميركية ضمناً أن تسأل دمشق عما تريده لتأخذه ثم تعطي هي ما تراه مناسباً أو متوافقاً لما أخذته.
مهما جرى بين دمشق واللبنانيين فإن أمراً واحداً لا يمكن الغاؤه ولا تجاهله وهو أن لبنان وسوريا "توأم سيامي" جغرافي واجتماعي واقتصادي ومصيري. والفصل بينهما، يبقى أمراً مستحيلاً. ولذلك فإن أي حل للأزمة اللنبانية تعني حكماً قيام نظام رئيسه مقبول من اللبنانيين ويعمل معهم ومقبول من الآخرين ومن ضمنهم أساساً دمشق ويعمل بالاتفاق والتفاهم معهم. لكن ذلك لا يعني ولا يجب أن يعني استعادة دمشق لقرار اللبنانيين والعمل في لبنان بناء لخريطة طريق وضعتها مسبقاً، المطلوب وهو معروف ومكرر أكثر من مرة عودة الشعبين اللبناني والسوري الى حالة الشعب الواحد في دولتين تحترم كل واحدة سيادة واستقلال وأمن الأخرى.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00