باريس متحمّسة أكثر من أي وقت مضى لإنجاز استحقاق الانتخابات الرئاسيّة في لبنان، بأسرع ما يمكن ضمن المهلة الدستورية ودوماً على أساس ضمان سيادة لبنان وفي اطار النصوص الدستورية. هذه الحماسة الزائدة لباريس تعود إلى قلق فرنسي حقيقي على مستقبل لبنان، وعلى سقوطه في الفراغ والفوضى، حيث لا يعود ينفع "الكي" كعلاج، ولا التحاور وسيلة للحل. ومما يزيد من "القلق" الفرنسي العلني، ان استحقاق الانتخابات الرئاسية في لبنان، ضمن المهلة الدستورية التي بدأت في 25 أيلول وتنتهي في الرابع والعشرين من تشرين الثاني، هي أيضاً فترة كل المخاطر الاقليمية والدولية المتوقعة، والتي تضيف إلى المخاطر الكامنة لهذا الاستحقاق اللبناني ما يكفي لوضع الكيان اللبناني في مهب العاصفة.
من الحرب إلى الحوار
طبعاً، التصريح "الحربي" لوزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، ذهب مع الريح، ولم يبق منه سوى محاولات رسمية وديبلوماسية فرنسية لإعادة تركيبه في ركن الصورة المركبة لحالة المنطقة، وتحويله بالتالي إلى دعوة للحوار والتهدئة. ذلك ان فرنسا لا تريد ولا تملك لا الأسباب ولا الإرادة ولا القدرات لشن حرب ضدّ إيران، كما ان حسابات مصالحها بواقعية حقيقية تجبرها على تبني سياسة الربط والتهدئة عبر الحوار. أما في حال شنّت الولايات المتحدة الأميركية حرباً جديدة على إيران فإنها، وإن كانت لن تقف كباريس ـ الشيراكية من الحرب ضد العراق، إلا انها ستكتفي بالمراقبة وبالدعم الإعلامي الرسمي في أقصى الحالات.
لكن خطر اندلاع حرب أميركية ـ إيرانية سواء الآن أو على مشارف الانتخابات الرئاسية الأميركية في خريف العام المقبل، ليس حالياً في رأس أولويات الهم الفرنسي، ما تخافه باريس حالياً هو تزايد خطر هجوم إسرائيلي على ايران في محاولة موضوعة بدقة لجرّ الولايات المتحدة الأميركية إلى هذه الحرب سواء كانت فعلاً تريدها أو انها لا تريدها.
أمام خطر وقوع هذه الحرب فإن التسريبات مستمرة، ومنها ان إسرائيل قررت فعلاً شنّ غارة واسعة على أهداف نووية إيرانية محددة قبل نهاية هذا العام، وأن الاستعدادات لذلك بدأت فعلاً، وأن الغارة على التل الأبيض في سوريا كانت تجربة ميدانية تحت مراقبة طائرة اواكس الأميركية، وان هذا الالتفاف على الشمال السوري، يعود إلى العمل على تجربة خط طيران آمن للقاذفات الإسرائيلية بعيداً عن الأجواء الاقليمية السعودية التي رفضت مهاجمة إسرائيل لايران عبر أجوائها حسب المصادر المطلعة في باريس.
"حصان طروادة"
لبنان سيكون في قلب هذه الغارة الإسرائيلية إذا ما وقعت ضد إيران، ذلك ان القيادة الإسرائيلية ستنتظر على "أحرّ من الجمر" كما يقول المثل الشعبي، لكي يندفع "حزب الله" نحو الردّ، فتكون الغارة على إيران "حصان طروادة" حقيقي للحزب، ذلك ان إسرائيل ستقفز على هذه الفرصة الاستثنائية للردّ على "حزب الله" تحت مظلة تفهّم دولي للردّ الإسرائيلي وستعمل إسرائيل بسرعة على تصفية حساباتها الناتجة عن حرب صيف 2006 مع المقاومة.
أما لبنان الواقف على حافة الهاوية، فإنّ اندفاعه نحو الهاوية سيكون بسرعة قياسية، لأنه وهو بلا رئيس للجمهورية وفي قلب نزاع داخلي مكشوف، وحرب شاملة مع إسرائيل، سيتحوّل إلى ساحة مفتوحة على خطر الإلغاء الكامل. لهذا كله فإنه كلما أسرع النوّاب اللبنانيون بالتوافق على اسم الرئيس الجديد للجمهورية، ساهموا في سحب لبنان من أمام سحب الاعصار الذي يتشكل بسرعة في المنطقة.
وتشدّد باريس على ان اندفاعها لانجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان لا يعادله سوى رغبتها في عدم اندلاع حرب إيرانية ـ إسرائيلية أو إيرانية ـ أميركية. ولذلك فإنّ الحوار مع دمشق المتوقف حالياً أمام إشارة صفراء ناتجة عن الجريمة الأخيرة التي وقعت ضد النائب انطوان غانم العضو في الأكثرية وفي قوى 14 آذار، قد يتحرك مع زيارة سريعة لجان كلود كوسران لدمشق نفسها، وربما زيارة لوزير الخارجية برنار كوشنير إلى طهران قد تفتح الباب أمام الرئيس نيكولا ساركوزي بالاتجاه نفسه وفي العام المقبل.
"سحب البساط"
أما بالنسبة لطهران، فإنّ مصادرها في باريس تؤكد ان الايرانيين لا يريدون الحرب مع أحد، رغم انهم غير خائفين منها إذا وقعت لأن القصف الجوي إذا كان إسرائيلياً فإنه سيكون مجرّد قصف محدود نظراً للامكانيات الإسرائيلية إلا إذا كان قصفاً أميركياً تحت العلم الإسرائيلي كما ان حرباً أميركية فضائية (أي بالطيران) دون اجتياح برّي يتطلب مشاركة نصف مليون جندي، فإنه يمكن التعامل معه رغم خسائره الفادحة وفي حرب استنزافية مفتوحة على مساحة خريطة الشرق الأوسط والقدس الإسلامي معاً.
هذا الكلام الايراني الجدّي يرافقه كلام أكثر جدّية ومن أكثر القوى الراديكالية تطرفاً في إيران وهي "حزب الله الايراني"، إذ ان هذا الحزب يشدّد في نشراته على جملة مواقف من احتمال وقوع مثل هذه الحرب على انه:
* ينبغي ألا نسمح بوقوع حرب.
* العمل على تيئيس العدو من شنّ حرب على إيران.
* العمل على عدم نجاح العدو في الحصول على إجماع دولي ضد إيران.
أكثر من هذا، فإن المصادر الإيرانية المطلعة في باريس ترى وخصوصاً بعد الحذر الناجح الذي قام الرئيس أحمدي نجاد بتنفيذه في الولايات المتحدة الأميركية مستعدة للذهاب بعيداً في "العمل لعدم وقوع حرب"، ومن ذلك الإعلان في لحظة معينة وقف كامل نشاطاتها لانجاز التخصيب، والإعلان بأنها أصبحت تملك المعرفة والقدرة لكنها ترفض تصنيعها وبذلك تصبح عضوة بما يسمى "النادي الياباني"، وفي الوقت نفسه تسحب البساط من تحت أرجل "الصقور" الراغبين في الحرب، والأخطر ان طهران مستعدة لبلع موسى الغارة الإسرائيلية وعدم الردّ عليها فوراً وترك التطورات تنضج على "نار هادئة" في المستقبل.
واستكمالاً لكل ذلك، فإن طهران تعمل على تثبيت تفاهمها وتعاونها مع الرياض التي ترى فيها الخط الاقليمي الأول الذي يبعد عنها شبح الحرب، وفي الوقت نفسه تعمل بجدية كبيرة للانفتاح على مصر تمهيداً لاعلان عودة العلاقات الديبلوماسية بينهما بعد انقطاع امتد نحو ربع قرن، لتستثمر بذلك أيضاً كل الحضور المصري عربياً ودولياً لمنع الحرب وإبعاد شبحها عنها.
هذه البراغماتيكية الايرانية لحماية نفسها وهي التي تملك الجغرافيا والقوة والمصادر للمواجهة ألا يجب أن تحض اللبنانيين وتحديداً "حزب الله" للتعامل ببراغماتيكية مع "خطر الموت" الذي يقترب من لبنان لانجاز هذا الاستحقاق الدستوري؟!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.