8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

دمشق تريد العودة إلى لبنان عبر الفراغ وتتابع رهانها على مجيء الديموقراطيين

متعبة دمشق، لا ترتاح ولا تريح، كلما اقتربنا منها خطوة تراجعت خطوتان، لعبتها خطرة جداً. انها لعبة ضد نفسها قبل أن تكون ضد الآخرين. لا أحد يعرف كيف تدار اللعبة من دمشق وفيها، هل تريد فعلاً المشاركة في الحل لتحصد عروضاً ومكتسبات، أم انها تراهن على الوقت معتبرة ان رهانها حتى الآن كان ناجحاً؟
هذا جزء من صورة الموقف من باريس تجاه دمشق. أكثر من ذلك تتساءل باريس، لماذا تصر دمشق على هذه الممانعة وكأنها تعيش أيضاً في حالة خطر داهم، مع أن لا أحد بما فيهم إسرائيل، يريد إسقاط النظام أو تعريضه للخطر، كل المطلوب تحسين سلوكها وسياستها خصوصاً في لبنان لاخراجه من الأزمة التي تضعه أمام حافة الفراغ القاتل.
ساركوزي المستعجل
الرئيس نيكولا ساركوزي، المستعجل للدخول إلى المسرح الدولي بقوة، يعمل باندفاع شديد وكما اعتاد أيضاً بتصميم فعّال لتحقيق هذا الإنجاز. ساركوزي لم يحدث انقلاباً حقيقياً في مواقف فرنسا، رغم انحراف بوصلته بقوة باتجاه واشنطن وهو ما لم يعتد عليه الفرنسيون، إلا انه قام بمبادرات في مختلف الاتجاهات والملفات. ومن الطبيعي أن يكون لبنان كما كان في قلب هذه الملفات، مثلما هو دائماً في القلب من الانشغالات الفرنسية السياسية. ومن أجل اخراج لبنان من أزمته، ولأن باريس تقرأ جيداً السياسة من طبيعة التضاريس الجغرافية للحدث، فإنها تجاوزت مختلف الحساسيات والعلاقات حتى الشخصية منها، وطرقت مختلف الأبواب بما فيها دمشق.
طبيبان إذا صحّ التعبير يعملان بتكليف من ساركوزي على معالجة المشكلة اللبنانية وهما: وزير الخارجية برنار كوشنير، رغم كل حبه للإعلام، ورغم عدم ديبلوماسيته أحياناً لأنه رجل ميدان والمهمات الانسانية الصعبة، إلا انه يتمتع بمصداقية حقيقية برغبته لمساعدة لبنان وإخراجه من حالة الخطر التي يعيش فيها. فالدكتور كوشنير كما يعرفه العديد من أصدقائه يحب لبنان بصدق وهو يؤكد دائماً على هذه الخصوصية القديمة له مع لبنان، أما السفير جان كلود كوسران فلا حاجة للبحث كثيراً بخصوصية علاقته مع لبنان ومعرفته الممتازة بدمشق وهو الذي أمضى فترات طويلة فيهما.
السفير كوسران زار دمشق، والوزير كوشنير اراد زيارتها، لكن من الضروري التمهيد لذلك بمحادثات مع نظيره الوزير وليد المعلم. لكن اللقاء لم يقع في نيويورك رغم كل التحضيرات له، والزيارة صرف النظر عنها بطبيعة الحال. والمشكلة التوقيت الغريب لاغتيال النائب انطوان غانم. ورغم أن باريس رفضت كما اعتادت توجيه اتهام مباشر لدمشق بعملية الاغتيال، إلا أن تلميحات من نوع "الاشياء تنطق بنفسها" كانت كافية لطرح ألف سؤال وتساؤل حول المسار المؤدي للقاء، وتوقفه عند هذه المحطة.
المصالح السورية
باريس سبق وأن أشارت إلى ان أي اتفاق في لبنان "يجب ان يأخذ في الاعتبار الاعتراف بوجود مصالح حيوية لدمشق معه لأنه جزء من مجالها الحيوي". لكن رغم هذا العرض السخي جداً، فإن كل الحل متوقف عند "اللازمة الموسيقية" للأغنية الدمشقية وهي "ضرورة اجماع اللبنانيين على الحل".
وإذا كانت هذه "اللازمة الموسيقية" تمر بالسابق على الديبلوماسيين الغربيين سواء لأنهم يرغبون بذلك او لأنهم لا يمسكون كثيراً بتعقيدات الملف اللبناني، فإنها حالياً لم تعد تمر.
ولعل "العزف على الكمان" (وهو مثل فرنسي يؤشر على المحبة الشديدة) الذي قام به نائب الرئيس السوري فاروق الشرع أمام البابا في روما ما يؤشر إلى ذلك، خصوصاً وأن هذا "العزف" انتهى بالقفلة الموسيقية حول ضرورة إجماع اللبنانيين. وإذا كان البابا لم يرد على هذا العزف مباشرة، فإن الشرع سمع من الفاتيكان كلاماً مختصرا "وصلتنا الرسالة ونعرف مضمونها جيداً". لأن هذا الإجماع اللبناني المطلوب "مفتاحه" في دمشق نفسها وبدلاً من ان تطالب به فلتقدمه إلى المجتمع الدولي وتساهم مباشرة بفتح باب الحل.
أحجية الموقف في دمشق من لبنان أصبحت معروفة في باريس وباقي العواصم الأوروبية رغم أن مدريد لم تفقد الأمل بعد فإنها تتابع انفتاحها على دمشق دون الالتزام بشيء خصوصاً وأن باريس ومدريد ترفضان ذلك. وباختصار شديد، دمشق التي لم تبلع مرارة هزيمتها في لبنان واضطرارها للخروج منه، تريد استعادته كيفما كان وبأي طريقة. وهي تعتقد أن حصول فراغ سياسي ودستوري هو أقصر الطرق للعودة، فقد سبق لها أن عادت على طريق الصدامات الداخلية التي احدثت خراباً جعل منها حكماً مطلوباً وإن كان مكروهاً.
قواعد اللعبة
مشكلة دمشق كما تراها باريس حالياً أنها ما زالت أسيرة استراتيجية قديمة جداً في زمن مختلف ومعطيات مختلفة ووقائع متباعدة وقيادة سياسية المسافة بينها بعيدة جداً، فالعالم تغير كثيراً، والقبول الأميركي بالدور السوري في لبنان والمنطقة انتهى. والمطلوب من دمشق إذا أرادت العودة إلى أي اتفاق مع واشنطن أن تأخذ بتوجهاتها لأن لكل لعبة قواعدها وشروطها.
فواشنطن لم تقدم إلى الرئيس الراحل حافظ الأسد "هدايا" مجانية وانما تبادلت معه اتفاقات محددة قائمة على احداثيات واضحة. وقد التزم بها الرئيس الراحل حافظ الأسد بحذافيرها فالتزمت واشنطن بالاتفاق بحذافيره.
طبعاً دمشق ترى أنها تستطيع الانتظار حتى نهاية عهد إدارة الرئيس جورج بوش ومجيء الديموقراطيين للتفاهم معهم. إذ لماذا يتم الاتفاق مع الماضي في حين أن المستقبل لم يعد بعيداً؟.
لكن حتى ولو تم الأخذ بهذا الموقف، فإن سؤالاً كبيراً يبدو مطروحاً على دمشق وهو: ما زال أمام مثل هذا الموقف لو تم افتراض نجاحه سنتان، فهل يمكن ضبط الموقف بدقة بعد حسابات كثيرة ومختلفة، علماً أن المنطقة كلها تبدو وكأنها تعيش فوق قنبلة تكاد تكون نووية اما بسبب انفلات العنف الإسلامي المتطرّف الذي ظهرت مفاعيله ميدانياً في مخيم نهر البارد علماً أن المعلومات القليلة الخارجة من دمشق تؤشر إلى وقوع انفجارات غامضة في مواقع مختلفة في سوريا، وأن مسارعة دمشق في الأسبوعين الأخيرين للجيش اللبناني انما تعود إلى إدراكها أن اللعبة خرجت من بين أيديها بسبب اغراق مجموعة شاكر العبسي بعد اختراقها من مجموعات أصولية مشدودة فكرياً وعملانياً إلى "القاعدة"، مع ما يعني ذلك من مخاطر متوالدة لا يمكن ضبطها بسبب التداخل المذهبي عبر الحدود اللبنانية ـ السورية المشتركة شمال لبنان.
وأما بسبب خطر وقوع مواجهة أميركية ـ إيرانية ـ إسرائيلية لا شيء يمنع تمددها إلى سوريا نفسها. هذا عدا أن انحشار الرئيس جورج بوش في المستنقع العراقي لا يعني مطلقاً استعداده لتقديم تنازلات لدمشق لأن هزيمة أميركا في العراق تعني هزيمة للاستراتيجية الأميركية كلها، ولذلك لا شيء يمنعه من التصرف مثل "نمر جريح" لا رحمة لضرباته.
أسئلة كثيرة ولا اجابات واضحة. أمر واحد تراه باريس وهو أن مساراً مختلفاً وآلية مختلفة جداً سيتم اللجوء إليهما في حال فشل الحل في لبنان وبدا خطر وقوعه في الفراغ حتمياً. فالأمن والاستقرار في لبنان أصبح يعني الأمن القومي لفرنسا واسبانيا وايطاليا وألمانيا دون الحديث عن باقي الدول المشتركة في قوة اليونيفيل في جنوب لبنان.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00