لا يجب أن يمر تغيير السفير الايراني في دمشق، وكأنه اجراء ديبلوماسي أو اداري عادي. فالعلاقات الاستراتيجية بين طهران ودمشق، فرضت دائماً الى جانب الاتصالات الرسمية وغير الرسمية والمباشرة وغير المباشرة وجود سفير فوق العادة له موقعه وأهميته لدى دائرة القرار. هكذا كان الوضع مع السفير السيد محتشمي وأيضاً السفير شيخ الاسلام ومن ثم السفير الشيخ محمد حسن اختري، الذي جرت تسميته لمرتين.
اختري: السفير الاستثنائي
استبدال الشيخ اختري حالياً بالسيد أحمد الموسوي، الذي أعلن رسمياً، في هذا الوقت بالذات كان يشكل رسالة سياسية مهمة جداً "مثلما أن تسميته سفيراً في دمشق لأول مرة عام 1986 "رسالة تؤكد أهمية العلاقات بين البلدين". بقي اختري سفيراً لبلاده في دمشق من العام 1986 وحتى العام 1998. وفي تلك المرحلة أمسك السفير الايراني العارف بالقرار السياسي الاستراتيجي الايراني مضموناً وتنفيذاً في أدق مرحلة". أدار السفارة في بيروت من مكتبه في دمشق، والدليل على وعيه الكامل لخطورة ودقة تلك المرحلة التي شهدت ثلاثة أحداث مفصلية:
* انتهاء الحرب الايرانية العراقية واتخاذ العلاقات مع دمشق تطوراً جديداً.
* صعود المقاومة في لبنان مع كل سياسة الدعم الايرانية عبر دمشق.
* اشتعال ملف "حرب المخيمات" بين أمل والفلسطينيين التي قال عنها اختري في حديث منشور له مؤخراً ان بلاده عملت لمنع تحول حرب المخيمات الى حرب سنية شيعية".
نجاح الشيخ اختري في ادارة كل هذه الملفات الاستراتيجية فتحت له الأبواب ليصبح بعد عودته الى طهران الشخص الثاني في مكتب "القائد" آية الله خامنئي بعد وزير الخارجية الأسبق د. علي ولايتي، و"أميناً عاماً لمجمع أهل البيت". ومن هذا الموقع جرت عملية اعادة نقله الى السفارة في دمشق سفيراً لبلاده في 28/12/2005 أي قبل أقل من عامين، وجاء هذا التعيين في لحظة حساسة تعيشها المنطقة ودائماً على وقع ملفين، الأول هو الملف النووي والثاني وهو خطر "العرقنة" واشتعال مواجهات سنية شيعية.
لكن الملف الذي بدا أن له الأولوية، كان ملف الأزمة اللبنانية تبعاً لموقع السفير وخصوصية العلاقة الثلاثية طهران بيروت دمشق. والواقع ان السفير اختري جاء في عزّ نمو الصراع المكشوف بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار من جهة، وفي وقت تحول فيه الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الى سكين تكاد تمر على وريد الجسد اللبناني لتقطعه.
الاختيار الخيار
السفير الشيخ اختري ينفذ حكماً سياسة بلاده، وكونه آتياً مباشرة من مكتب "القائد" فمعنى ذلك ان اختياره هو خيار سياسي استراتيجي مثلما أن تغييره هو أيضاً من المسار نفسه، ومما يزيد من أهمية ذلك ان هذا التغيير يأتي في وقت وصلت فيه أزمة الرئاسة في لبنان الى القمة، ولم يعد يفصل بين الاستقرار والفراغ القاتل أكثر من خمسة أسابيع. وحتى لا تضيع البوصلة، فإن هذا التغيير لا يعني انقلاباً في موقف طهران من دمشق، فالعلاقة استراتيجية بينهما وهي عميقة وضرورية خصوصاً في هذه المرحلة حيث التهديد بهجوم أميركي اسرائيلي ضد ايران يكاد يكون يومياً. لكن من الواضح ان القراءة المباشرة لهذا التغيير الديبلوماسي ان القيادة الايرانية تريد فعلاً ان ينظر الى الملف اللبناني من منظار الواقع اللبناني وتعقيدات نسيجه السياسي والاجتماعي، وليس من دمشق مباشرة حيث لا يمكن فصل المشاعر المشتركة مع سوريا عن هذه الرؤية في لبنان.
السفير اختري كان واعياً جداً لخصوصية لبنان لدرجة انه كان يشير دائماً الى "ان العلاقة مع لبنان تعود الى أيام الشاه"، وهو الذي سبق له ان أقام في لبنان بين العامين 1969 و1974. وانه "لا يمكن قيام جمهورية اسلامية في لبنان لأن واقع لبنان لا ينسجم معها". لكنه ايضاً كان يقول "ان بلاده ليست ناخبة في لبنان وانها وان كانت لا تتدخل في الشؤون اللبنانية الا انها تؤيد ما يتفق عليه اللبنانيون"، علماً ان هذا الاتفاق المطلوب هو عقدة العقد، وهو الى جانب ذلك "مسمار جحا" الدمشقي الذي يتم عليه تعليق الحل، وبهذا المعنى فإن السفير اختري كان رغم فهمه العميق للملف اللبناني يتعامل معه من موقعه في دمشق المتضامن معها، وليس كما لو كان في لبنان.
الاستثمار المستقل
تغيرت الآن بعض الوقائع. طهران تشعر حالياً ان حضورها في لبنان قوي جداً، وكونها تعمل من أجل حل يعيد الاستقرار والأمن الى لبنان ويحفظه من أي تجربة له مع الرياح الصفراء "للعرقنة" والنزاع السني الشيعي، بالتعاون والتنسيق مع المملكة العربية السعودية، فإنه من الأفضل ان يتم التعامل مع الملف اللبناني بدون التزام بأي موقف آخر. مصلحة ايران القومية التي تتقدم بطبيعة الحال على كل المصالح، ان لا يتعرض لبنان الى تجربة الفراغ والتخريب. فلبنان مهم جداً لايران لكنه يبقى ملفاً من حزمة متعددة وغنية في حين انه الحزمة الأساسية والرئيسية والمصيرية لدمشق. واختلاف الأولويات يدفع دائماً الى الاختلاف في آليات التنفيذ.
طهران تعاملت دائماً بكل ما يتعلق بلبنان مع دمشق، على أساس وضع رصيدها الكبير فيه ضمن الرصيد السوري، لتعمل على استثماره وحصد مفاعيله مباشرة. في حين انها كانت تكتفي بنمو رصيدها ببطء وبتواصلية مستمرة خصوصاً مع صعود المقاومة و"حزب الله". وهذه السياسة من طبيعة طهران التي تعتمد سياسة النفس الطويل في تنفيذ استراتيجيتها. الآن، لأن الوضع لم يعد يحتمل الابقاء على هذا الخلط، فإن طهران التي لا تريد حكماً الطلاق مع دمشق لأن حاجتهما لبعضهما البعض متبادلة، فانها تريد استثمار رصيدها في لبنان لحسابها، فهي اصبحت "ناخباً" مهماً له حضوره وكلمته خصوصاً اذا كان توجهها لانجاز الاستحقاق الرئاسي بالتعاون مع المملكة العربية السعودية وكما يريد المجتمع الدولي. وهي في الوقت الذي ستؤكد فيه حضورها الايجابي في لبنان على قاعدة "حفظ السيادة والأمن والاستقرار والهدوء لجميع دول المنطقة، بما فيها لبنان" كما يقول السفير الايراني في بيروت محمد رضا شيباني فإنها أيضاً تستطيع ان "تهديه" للغرب وتحديداً لباريس على قاعدة الفصل بين الملف اللبناني عن باقي الملفات "البركانية" في المنطقة (وهو ما كان الرئيس جاك شيراك قد طلبه من نائب الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد عندما التقاه في الإليزيه).
السفير الايراني الجديد في دمشق السيد أحمد الموسوي، يستطيع ان يهتم أكثر بتفاصيل التعاون الايراني السوري في ظل الخطر اليومي لامكانية وقوع مواجهة عسكرية مع اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وهي مهمة حساسة ودقيقة واستراتيجية.
الرسالة واضحة. والعنوان واضح. والمضمون يُقرأ بسهولة من العنوان. الآن يجب انتظار الجواب لمعرفة كيفية قراءة دمشق "للرسالة" في لبنان.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.