الأجندة الأوروبية للبنان واضحة جداً. ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية ضمن المهلة الدستورية التي تنتهي في 24 تشرين الثاني القادم. وبعدها تأتي كل الاستحقاقات المنظورة وغير المنظورة. المهم الا يبقى إميل لحود المنتهية ولايته الممددة دقيقة واحدة في قصر بعبدا، تحت أي ظرف كان أو أي تسمية كانت. وأن يدخل الرئيس المنتخب إلى قصر بعبدا، ليبدأ لبنان معه وبه مرحلة جديدة أقل ما فيها وقف انزلاق لبنان بسرعة إلى الفراغ.
نقطة مهمة يجمع عليها بين اللبنانيين والأوروبيين وكافة المجتمع الدولي والعربي، أن الفراغ يعني "الشر المستطير"، هذا الشر الذي لن يكون بعده شرور ولا تجارب فلبنان الذي عرفناه لن يعود منه، مثلما حصل بعد حروب التتابع عليه من الداخل والخارج، من أهله ومن الآخرين. اتفاق الطائف الذي شكل وما زال خشبة الخلاص قد يتحول إلى الصليب الذي يعلق عليه ما تبقى من أشلاء هذا الوطن.
"الشر المستطير"
ما يعزز هذا الخوف المجمع عليه، أن باريس ترى أن لبنان يعيش تحت قوس أزمة إقليمية ـ دولية عنوانها الكبير إمكانية اشتعال حرب بين إيران من جهة والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل من جهة اخرى. وان فترة الموت المعلن هذه تمتد حوالى 12 شهراً بالتمام والكمال. وإذا ما وقعت هذه الحرب سواء كانت محدودة أو شاملة، فإن لبنان الذي يعيش فراغاً دستورياً وربما أكثر من ذلك إذا لم تضبط القوى المتصارعة وخصوصاً "حزب الله" أعصابها وقرارها، سيتحول إلى ساحة خلفية مفتوحة لهذه الحرب.
ولا شك أن إسرائيل ستجد فرصة لن تتكرر لتصفية حساباتها مع المقاومة. وأن "حزب الله" قد يجد في مثل هذه المواجهة حلاً سياسياً مطلوباً ومرغوباً منه للتفلت من مستنقع المواجهة الداخلية والانطلاق في الدور الذي يناسبه لبنانياً وعربياً وهو مصارعة الجيش الإسرائيلي ولو كانت كلفة هذه الحرب أكبر على جميع الأصعدة لأن إسرائيل تريد ان تثأر أولاً وأساساً لهزيمتها في حرب 2006، ولانها ترغب في تنفيذ كافة الخطط التي بنتها بناء على الدروس المستفادة من تلك الحرب. ولهذا كله فإن مثل هذه الحرب ستكون هذه المرة برية يساندها سلاح الطيران وليس كما حصل في الحرب الماضية جوية يساندها سلاح المدرعات والقوات البرية.
طبعاً، مصير "حزب الله" على يد الجيش الإسرائيلي هو آخر هموم باريس وكافة الدول الأوروبية، وربما ستكون بعض الدول الأوروبية "سعيدة" خاصة الحليفة منها للولايات المتحدة الأميركية، أو التي تعادي علناً الحزب وترغب في وضعه على لائحة المنظمات الإرهابية، لكن الموقف الفرنسي الرافض له (كان للرئيس الشهيد رفيق الحريري الدور الأكبر في جعله بنداً أساسياً من بنود السياسة الخارجية الفرنسية حيال لبنان في عهد الرئيس السابق جاك شيراك).
المسألة التي لها حالياً الأولوية بالنسبة لأوروبا وتحديداً باريس ومدريد وروما هو مستقبل وأمن قوات اليونيفيل في جنوب لبنان، ذلك أن جنود هذه العواصم الثلاث يشكلون العمود الفقري لهذه القوات.
التاريخ والأمن المشترك
فرنسا وايطاليا واسبانيا، ومعها أوروبا لا تريد أن تحول لبنان إلى ساحة مكشوفة للفراغ والفوضى والاقتتال الداخلي ومن ثم الحروب الخارجية، لأن سلامة قواتها من سلامة لبنان. كما أن هذه الدول التي تستطيع سحب قواتها في أيام قليلة جداً، لا ترغب برؤية ذلك اليوم لأن معنى ذلك : خروج أوروبا وخصوصاً التي كان لها دور تاريخي وثقافي من منطقة الشرق الأوسط، سيكون خطيئة لا تغتفر إذ لا أحد سيثق بها بعد ذلك طالما أنها تنسحب عند أول طلقة.
* تعلن مع انسحابها شاءت أم أبت تخليها عن المسيحيين في الشرق الأوسط، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج كارثية على لبنان وعلى أوروبا الكاثوليكية نفسها وروما وباريس ومدريد هي ثلاثي العواصم الكاثوليكية الكبرى في أوروبا.
* تعريض الأمن القومي الأوروبي للخطر الواسع والعميق فلبنان الغارق في الفوضى والحروب سيتحول حكماً إلى ساحة مفتوحة نهائياً أمام "القاعدة"، ومجرد حصول تقاطع بين هذه "القاعدة" الحديثة الولادة و"القاعدة" في شمال افريقيا الناشطة داخل أوروبا نفسها، يعني أن ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط، ستتشابكان لتخضعا لكل الأخطار الأمنية الاستراتيجية.
هذه الأسباب وربما غيرها، هي التي تدفع الآن باريس وروما ومدريد للمسارعة لتكثيف جهودها الديبلوماسية والسياسية، وإيفاد وزراء خارجيتها برنار كوشنير وماسيمو داليما وميغيل انخيل موراتينوس إلى بيروت هذا الأسبوع، فهذه الدول جادة جداً للعمل على ولادة حل عنوانه الكبير انتخاب رئيس للجمهورية "مقبول من الجميع وقادر على العمل مع الجميع".
في "العجلة السلامة"
زيارة "الترويكا" الأوروبية لبيروت ورغبتها في تقصير فترة المخاض والاسراع بالولادة، لأنه من المرات النادرة فإن في "العجلة السلامة". لكن ذلك لا يعني ان هذه العواصم مستعدة "للانبطاح" لانتاج الحل. وباختصار شديد، فإن الوزراء الثلاثة وكل واحد منهم معروف بخبرته الطويلة والقديمة بشؤون وشجون لبنان ودمشق، يعرفون ان "صِمَام الأمان للقنبلة الفراغية" موجود في دمشق، وأن محاولة شدها إلى المساهمة إيجابياً في الحل مطلوبة وربما ملحة. لكن هذه المهمة يجب ألا تكون على حساب "انتخاب رئيس لمرحلة مهمة وأساسية لقيام دولة سيدة ومستقلة" كما يصف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هذه المرحلة.
ومن اللافت حول موقف هذه "الترويكا" المحاور لكن الملتزم والصلب، ان المحادثات الأولية اصطدمت في البداية بموقف الوزير الاسباني موراتينوس الراغب "في الذَهاب بعيداً في طرقه بودّ للباب السوري" إلي درجة أزعجت عدة دول بما فيها واشنطن. وان هذه "الشراكة" الحالية وإن كانت تخفف ضمناً من الأعباء على باريس، إلا انها واقعياً فرملت هذا الانزلاق الاسباني نحو دمشق بدون ضمانات سوى العزف الدائم على كمان الوفاق اللبناني الذي تشكل الجدار الحقيقي لعدم حصوله.
وممّا يعزز الصورة المتشدّدة لهذه "الترويكا"، ان انقرة التي لها ما لها لدى دمشق من "كلمة مسموعة" قالت علناً وعلى لسان وزير خارجيتها الجديد علي باباجان "لسوريا نفوذ في لبنان ونأمل أن تستخدمه بصورة إيجابية". هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن تسريع الأمم المتحدة في إنشاء المحكمة الدولية هو لسحبها من التداول في هذه المرحلة بحيث يتم الفصل نهائياً بين ملفي المحكمة والانتخابات الرئاسية لا تكون الان ملفاً للتفاوض عليه تمهيداً لمقايضته، وان لا تكون مستقبلاً بنداً لدى البحث في البرنامج السياسي للحكومة المشكّلة بعد الانتخابات الرئاسية.
دمشق بارعة جداً في المناورة. لكن ايضا المجتمع الدولي يعمل على تضييق المساحة الحرة أمامها لتعقيد حركتها وبالتالي تعطيل قدراتها على المناورة الناجحة. ومع ذلك يبقى السؤال الكبير ماذا سيكون موقف أوروبا وتحديداً فرنسا أولاً وأعضاء هذه "الترويكا" التي يجب ضمّ المانيا إليها، إذا فشلت كل المحاولات ولم تقع الانتخابات الرئاسية؟ باريس تقول ان آلية جديدة ستكون جاهزة لمواجهة مثل هذا الفراغ. هذا الاستعداد ضروري جداً طالما ان أمن لبنان أصبح جزءاً من الأمن القومي لأوروبا كلها وليس فرنسا وحدَها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.