الحضور التركي في سياسة منطقة الشرق الأوسط كبيراً وقوياً. يكفي ان علاقات مهمة وقديمة تربطها مع اسرائيل وعلاقات قائمة على الثقة وجديدة تشدها الى سوريا. هذه القدرة السياسية والديبلوماسية لدولة تحتل زاوية من زوايا مثلت المنطقة الذي تدور في وسطه ادارة الأحداث، لا بد ان تستثمر بفاعلية وانتاجية من دولة قديمة ذات تاريخ مثل تركيا. وهي بالفعل كما يبدو تعمل على ذلك وتبذل جهوداً مضاعفة لاثبات نجاحها.
سوريا أيضاً دولة قديمة وذات ماض عريق، لكنها تبدو الآن مثل عجوز تخطّت السبعين تعيش على امجاد ماضيها ولا مستقبل لها. ومع ذلك تسعى وتحاول لاستعادة بعض ماضيها لاستثماره حاضراً قبل المستقبل.
الجغرافيا أوضح المسارات
طبعاً سوريا "قلب العروبة النابض" لا تستحق هذا الوضع فتاريخها كان يجب أن يبقيها دائمة الشباب والحضور على غرار تركيا التي استعاضت "مرضها" بالاندفاع نحو اكتساب شباب جديد. الأمل ان يكون هذا الانكفاء موقتاً، علماً ان "المفتاح" موجود في قلب دمشق، التي تغير حولها كل شيء وما زالت تصر على الحركة وكأن شيئاً لم يتغير. والفرق شاسع بين أن تكون "يدها" مطلوبة وأن تكون كما هي الآن توحي بالتمنع وهي تسعى على "عكازة" للحضور، مرة تستعيرها من العراق ومرة اخرى من غزة ومرات من طهران.
من الطبيعي الآن ان ينتقل الرئيس بشار الأسد الى أنقرة، لعل القراءة المشتركة له معها لزوايا الأحداث تساعده اكثر على تدويرها بما يخرجه من الدائرة المغلقة الموجود فيها حالياً. الجغرافيا المشتركة راسمة المسارات واوضحها لتحقيق تفاهم مشترك، خصوصاً وان القراءة الأولى لها او لقوتها في العام 2004 انتجت تغييراً عميقاً وتاريخياً في المطالب، فدفعت العلاقات نحو آفاق من التفاهم المشترك.
الهموم التركية السورية تكاد تكون مشتركة مع اختلاف في الأولويات وهذا طبيعي جداً بين الدول على مثال الأفراد. ملف النزاع العربيالاسرائيلي وخصوصاً في جانبه السوري الاسرائيلي يعني دمشق مباشرة لأن أرضها المحتلة في الجولان هي في قلب هذا النزاع. في حين أن أنقرة ترغب بالحل وتعمل له لأنها لا تريد الحرب على حدودها، لأن الحروب لم تعد بوجود الطيران والصواريخ محصورة في قطاع جغرافي محدد. لذلك تعمل على "وساطة" جدية منذ العام 2004 كما أكد الأسد، أي من تاريخ زيارته الأولى لأنقرة.
المؤتمر الدولي والجولان
والجديد في كل ذلك هو المؤتمر الدولي للسلام المزمع انعقاده في الولايات المتحدة الأميركية، وأنقرة تريد من دمشق حضور هذا المؤتمر الذي لم تتم دعوتها اليه حتى الآن. وهنا بيت القصيد. تركيا تتوسط. لكن أمام دمشق المرور باستحقاقين بنجاح حتى تكون حاضرة، وان يكون لهذه المشاركة معنىً ونتيجة.
الاستحقاق الأول "أن تستعمل نفوذها في لبنان بطريقة ايجابية.. لأن انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان مسألة مهمة جداً. فالانتخابات الناجحة تعني لعب سوريا دوراً لصالح الاستقرار في المنطقة". هذا الكلام هو خلاصة كلام واضح مع "ملح الديبلوماسية لوزير الخارجية التركي الجديد، على باباجان.
الاستحقاق الثاني هو لعب دور ايجابي خلال مؤتمر دول الجوار للعراق الذي سيعقد في الأول من الشهر القادم (قبل المهلة الدستورية الأخيرة للانتخابات الرئاسية في لبنان). وهنا قد يكون هذا الدور الايجابي ورقة تبادلية مع واشنطن لا بد أن تستغلها دمشق بقوة.
الى جانب ذلك فإن الهم الكردي المشترك لأنقرة ودمشق، يجعلهما في موقع التفاهم والتحالف، فإذا كانت أنقرة لا تريد تقسيم العراق حتى لا يصبح للأكراد العراقيين دولة مستقلة تفتح عليها نهائياً "دائرة النار" الكردية، فإن دمشق لا تريد تقسيم العراق لأنه سيشكل بوابة لشر التقسيم في المنطقة ونهاية للعالم العربي، اضافة الى انها ستصاب حكماً من الهزات الارتدادية لزلزال قيام دولة كردية، فلها من نار هذه المشكلة "جمرات".
ولا شك ان الرئيس بشار الأسد وهو يقدم واجب الثقة والشراكة الى تركيا القوية والمقتدرة يريد دائماً اصابة الكرة الاسرائيلية في لعبة البلياردو الثلاثية الكرات لكنه يريد ايضاً واساساً اصابة الكرة الاميركية لانه بذلك يحقق هدفه الاساسي، وهو لا يخفي ذلك تحت تسمية العلاقات مع "راع" حقيقي.
واشنطن التي وان كانت علاقاتها مع انقرة ليست بصحة ممتازة كما كانت دائماً، فانها لا تستطيع ان تدير "الاذن الطرشا" لهذه الحليفة التاريخية، خصوصا اذا ما كان الناتج مفيداً وايجابياً لها. ولذلك فان "جائزة الترضية" التي يمكن لواشنطن تقديمها لدمشق عن طريق انقرة دائماً، حدوث لقاء طال انتظاره بين وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس ونظيرها الوزير السوري وليد المعلم. ودائماً على اساس القاعدة الذهبية للديبلوماسية، "عند الاستحقاقات يكرم المرء او يقاطع". ونجاح دمشق بدعم وارشاد من انقرة في الاستحقاقات المرصودة والملحة اساس لتطبيق هذه القاعدة الذهبية ايجابياً.
الوساطة النووية
طهران التي تجلس على الزاوية الثانية من مثلث منطقة الشرق الاوسط، استقبلت بدورها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. طبعاً الملفات المشتركة بين العاصمة العائدة كقوة عظمى الى العالم، والعاصمة الاقليمية في منطقة الشرق الاوسط الحساسة التي تريد الاعتراف نهائياً بها للمشاركة في تشكل المنطقة مع اقتراب انتهاء الاحادية الاميركية في نهاية العقد القادم، متعددة واكثر اهمية من الملفات التركية ـ السورية المحدودة. فالملف النووي الذي يكاد ينصهر من حرارة التلويح بحرب اميركية ـ اسرائيلية اخطر بكثير من مطالبة الاسد بالجولان. وموسكو تعنيها هذه "الحرب" مباشرة ولذلك لا تريدها وتعمل على انتزاع فتيلها. وقد يكون الطريق الى ذلك وساطة روسية تعلن ايقاف التخصيب في الاراضي الايرانية والقبول بالعرض الروسي بالتخصيب فوق اراضيها حتى إشعار آخر، ما يسحب دعاوي الحرب من "صقور" واشنطن ويقوي بوتين داعية للسلام ويدفع روسيا صعوداً درجات عدة كقوة اساسية على مسرح العالم. لإيران مع موسكو ملفات كثيرة ويبدو ان التطابق والتوافق قائم حول القوقاز وبحر الخزر وآسيا الوسطى.
ودائماً على أساس قاعدة "خذ وأعطِ" هل يعني ذلك كله أن لبنان غائب عن القمة الروسية ـ الإيرانية؟
تعداد الملفات يؤشر إلى هذا الغياب. لكن نتائج مثل هذه القمة تؤكد انها إذا كانت إيجابية فإن للبنان نصيباً مهماً فيها. إذ كلما ابتعد خطر الحرب الإيرانية ـ الأميركية ـ الإسرائيلية كلما دخل لبنان تحت "قوس التهدئة". إلى جانب ذلك ان قيصر موسكو الجديد أكد مراراً اهتمامه باستقرار لبنان. طبعاً من المفيد تكرار ان نجاح القمة التركية ـ السورية يصب طبعاً في دفع لبنان بعيداً عن "ثقب الفراغ الأسود". وليس أفضل من أنقرة لإقناع دمشق بالمشاركة إيجاباً في استقرار لبنان، فقد أثبت مسار العلاقات التركية ـ السورية قدرة أنقرة على انتزاع ما لا ينتزع من دمشق من باب تحقيق السلامة، فكيف إذا كان المطلوب هذه المرة له نتائج، منها تثبيت هذه السلامة وتضمنها إلى حين.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.