أربعة وزراء خارجية لدول كبرى دولياً وإقليمياً كانوا في بيروت خلال الأسبوع الماضي. الأربعة وزراء هم الفرنسي والاسباني والايطالي والتركي، يعنيهم أمن لبنان كما يعنيهم بشكل أو بآخر أمن بلادهم. والأسبوع الحالي بدأ ببناء زيارة وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط وقد يحضر آخرون فجأة تبعاً للتدابير الأمنية الاستثنائية. وبهذا يكون لبنان قد ضرب الرقم القياسي بكسب اهتمام العالم به وبأمنه وباستقراره.
الصحة التبادلية
هذا الاهتمام الدولي والاقليمي والعربي الاستثنائي بدراسة صغيرة جداً بمساحتها مثل لبنان يجب أن يثير اغتباط اللبنانيين، لأن ذلك يعني أن وطنهم مهم جداً. هذا بالمبدأ، أما بالفعل فإن هذا الاهتمام يثير المزيد من قلق اللبنانيين وخوفهم، لأنه يؤشر الى أن مرضهم ما زال خطيراً جداً، الى درجة ابقائهم في غرفة العناية الفائقة، وأنه لا تكفي جهود "الأطباء" لخروجهم معافين، أو يلزمهم وجود "مناعة" كافية لديهم في مواجهة "الفيروس" الذي يتلاعب بهم وينهكهم ويهدد حياتهم، وأن يكون الله معهم مثلما يجب أن يكونوا مع الله.
رغم كل هذه الصورة التي تغيب عنها ألوان الربيع، فإن ما يدفع "المريض" اللبناني نحو الأمل، أن العلاقة الثنائية ـ التبادلية الحاصلة بين "المريض" و"أطبائه"، ربما هي من المرات النادرة التي تحصل. معنى هذه العلاقة ان اهتمام "الأطباء" ليس واجباً ولا اندفاعاً انسانياً فقط، معناه أن حياة هذا "المريض" واستعادته لصحته هي من "صحة" كل "طبيب".
هل في هذه الصورة تضخيم لبناني التي تؤكد اتجاه اللبناني في الوطن والمهجر على السواء بأن لبنان هو محور الكون و"نيال من عنده مرقد عنزة فيه"؟
هذه المرة وربما من المرات الاستثنائية، في هذه الصورة واقعية شديدة، يكفي ان وزير الخارجية التركي علي باباجان وهو رجل اقتصاد أيضاً يعرف دقة الأرقام وأهميتها يرى "ان نتائج الأزمة اللبنانية ستنعكس على كل المنطقة" سواء كانت هذه النتيجة سلباً أم ايجاباً. وأن وزير الخارجية الايطالي داليما يقول "ان وجود دولة ديموقراطية تتعدد فيها الأديان ـ أي لبنان ـ هو وجود ضروري ليس للبنانيين فحسب بل لمنطقة المتوسط". وواضح من هذا الاعتراف ان حصول عكسه أي سقوط لبنان في الفراغ والفوضى وتغييبه نهائياً يشكل ضرراً استراتيجياً لمنطقة حوض المتوسط المشتركة بين الضفة الجنوبية التي يتمدد عليها جزء أساسي من الشرق الأوسط وشمال افريقيا، والضفة الشمالية التي تقوم عليها دول أساسية من الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وايطاليا واسبانيا.
"الحلقة الخفية"
طبعاً، دمشق هي الحلقة الخفية في كل هذه الزيارات والجولات المكوكية لوزراء الخارجية الى بيروت، عدا الاتصالات اليومية المباشرة وغير المباشرة وعلى أعلى المستويات مع بيروت وبين العواصم المعنية مباشرة بالأزمة مثل الرياض. السؤال الأساسي الدائم خلف كل التصريحات والحوارات ماذا عن دمشق؟ وما هو قرارها؟ هل يمكن لها أن تركب رأسها وتمضي عكس الرياح حتى لو تمزقت أشرعة سفينتها في أعالي البحار؟.
يمكن لدمشق أن تقاوم وأن تتمنّع وأن تحارب "بسيف الوقت" جميع الدول بما فيها واشنطن، لكن ولأسباب جغرافية مستندة الى ميزان قوى مختل كثيراً لغير صالحها لا يمكنها مواجهة أو ممانعة أنقرة، دمشق مضطرة، وحتى مجبرة على التفاهم مع أنقرة. ذلك ان سياسة المناطحة مع أنقرة لا تنفع. وقد سبق لها أن "ناطحتها" في قضية عبدالله أوجلان وتنازلت بسرعة دراماتيكية عنه وعن مطالب قومية تقع في صلب عقيدتها، بمجرد حشد عدة فرق عسكرية على حدودها الشمالية لتصبح يا للأسف بين فكي كماشة مع العدو الاسرائيلي. هذه وقائع وليست دعوة جديدة لتحريض دمشق أو للشماتة بها رغم ان ما تقرره دمشق أو ما قررته، يعني كل العرب.
أمام هذا الواقع من المهم جداً الأخذ بجدية عميقة مواصفات أو "العلاج" الذي اقترحه علي باباجان في بيروت خصوصاً أنه جاء في جولة عربية واسعة عقب انتهاء زيارة الرئيس بشار الأسد الى أنقرة وتأكيده أنه شعر وكأنه في "منزله" أي مع "أشقاء"، وحيث بلغ من شدة شعوره بهذه "الاخوة" الى درجة أنه خول الأتراك ملاحقة الأكراد داخل الأراضي العراقية، على أساس ان ذلك يشكل "دفاعاً مشروعاً عن النفس" مع ان المتعارف عليه أن تعبير "الدفاع المشروع عن النفس"، مطاطي جداً، وهو ينتقل بين العمليات المحددوة جداً الى الحرب "الشاملة لكسر يد الخصم أو العدو لئلا يكرر تحديه أو تهديداته. والملاحظ في "العلاج" التركي انه يتضمن:
ان انتخاب رئيس للجمهورية سيكون خطوة مهمة في اتجاه وضع حد للأزمة السياسية الراهنة.
ان اجراء الانتخابات في موعدها الدستوري أهمية بالغة.
ادانة كل الأعمال الارهابية بما فيها الاغتيالات.
دعم الحكومة التركية للمحكمة الدولية ولذلك سمّت قاضيين من أجل تأكيد هذا الدعم.
حدود المناورة
تستطيع دمشق ان تناور على جارتها الشمالية وهي لا شك بارعة في فن المناورة، خصوصاً المستمد منه من تجارب ودروس قام بها الرئيس الراحل حافظ الأسد. وهنا يجب الانتباه أن دمشق وهي تدعم تركيا ضد الأكراد الى درجة حق متابعتهم وملاحقتهم في الأراضي العراقية، بدأت في تسويق "بضاعة" جديدة لها في سوق المقايضة البارعة أكثر فيها.
وتتكون هذه "البضاعة"، من بند أساسي هو العمل على عدم "تعريب" المواجهة مع تركيا تحت يافطة الدفاع عن "العراق العربي". وبذلك فإنها تقايض تركيا دعمها لها بمزيد من الدعم الاقتصادي وحتى السياسي لها، كما انها تستطيع ان تشكل "جسراً" لتركيا مع الدول العربية المعترضة، فتستثمر ذلك بمزيد من المواقف والعقود العربية لها ومعها.
وللتذكر خصوصاً لأصحاب الذاكرة الضعيفة فإن هذه السياسة مستخرجة من "قاموس" حافظ الأسد في فن الاستراتيجيا وتحويل مواطن الضعف الى مصادر قوة. كما حصل عندما دعم الرئيس الراحل ايران في حربها مع العراق. فباع ايران موقفاً ما زالت تستثمره دمشق بعد اكثر من عقد ونصف من انتهاء الحرب. كما ان دمشق ـ الأسد الأب عَرَفَ دوماً كيف "يقبض" ثمن المرور العربي على "الجسر" الذي شكله مع الجمهورية الاسلامية في ايران، بحيث تبقى المنطقة هادئة ولا تنقطع العلاقات حتى لو كانت شكلية، مع وجود فارق كبير ان تركيا ليست محاصرة مثل إيران. بالعكس هي قوية ومسموعة الكلمة، وهي قادرة على التواصل مع الآخرين مباشرة. مما يخفف من احتمال هذه المقايضة الدمشقية.
طبعاً موقف تركيا مهم جداً لإبعاد لبنان عن حافة الفراغ القاتلة. وأن جهودها مع باقي جهود الدول الأخرى مهم أكثر. لكن من المهم جداً ان يعرف الجميع قطر الدائرة التي يتحركون فيها ومواطن المناورة فيها وحدودها، لأن في هذه المعرفة مزيداً من القدرة على النجاح.
"اليد" ممدودة الى اللبنانيين. المهم ان تكون "اليد" اللبنانية أيضاً ممدودة وفي الوقت المناسب، الوقت لم يعد يرحم. إما الابتعاد خطوات عن منصّة الاعدام، وإما الاقتراب أكثر فأكثر من حبل المشنقة وتحوّل "الوطن الى حقيبة"!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.