لا شكّ في أن وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط سيلقى لدى وصوله اليوم إلى بيروت، استقبالاً حاراً من الحكومة ومختلف القوى السياسية فيها، حتى القوى التي "نبضها" في دمشق ستظهر الود والترحيب. وليس أحلى ولا أعز على قلوب اللبنانيين، من رؤية العرب وهم يولون الاهتمام بلبنان المأزوم، فكيف بمصر وهي في القلب من العرب.
الترحيب والمرارة
لكن هذا الترحيب الحار، ستخالطه بدون شك مرارة لا يمكن حجبها ولا نفيها. اللبنانيون كانوا يتمنون ويرجون أن يكون أبو الغيط أكثر الوزراء العرب اهتماماً بمحاولات العثور على حل يخرج لبنان من شفير الفراغ والفوضى. طبعاً القاهرة مهتمة وهي تستطيع أن تؤكد قيامها باتصالات يومية، لكن للأمانة هذا لا يكفي.
شريط الوزراء الغربيين سواء كانت كونداليزا رايس أو وزراء "الترويكا" الأوروبية ومبعوثي الكرملين، مقابل هذا الغياب العربي وخصوصاً المصري، لا بدّ أن يثير مشاعر من المرارة. فالعلاقة البعيدة عن العين بعيدة عن القلب. وبدون مغالاة، كان اللبنانيون يتمنون أيضاً ويرغبون أن يتابعوا ويلاحقوا المسؤولين العرب وخصوصاً من مصر وهم يتنقلون يومياً ولو في سيارات مصفحة بين الجزر الأمنية في بيروت.
هذا المشهد سيشعر اللبنانيين بأن اخوتهم بالعروبة يعيشون يومياتهم بكل القلق المخزون، المختلط بالأمل المفتوح على حب الحياة.
للأسف هذا لم يحصل. المهم أن لا شيء متأخر طالما انه يحصل. فما زال أمام العرب وأبو الغيط تحديداً حوالى خمسة وعشرين يوماً حاسمة يستطيعون أن يساهموا في الحل حتى ولو لا يملكون "عصا سحرية". المهم أن يملكوا الإرادة والسواعد للمساهمة في الحل. هذه الزيارة للوزير المصري ستستمر ساعات معدودة، حتى انه لن ينام في بيروت ولن يشارك في أحد أعراسها، ليرى بالعين كما فعل نظيره الفرنسي الطبيب برنار كوشنير حب اللبنانيين للحياة، لعل ذلك يزيده إصراراً على تكثيف جولاته لتصبح مكوكية كما يفعل الوزراء والديبلوماسيون الأوروبيون. المشكلة هذه المرة أن أبو الغيط أمامه ارتباطات أكثر أهمية في القاهرة، عسى أن يكون لبنان من ملفات تلك المواعيد.
الانحياز السلبي
المشكلة، مع بقاء كل النوايا صافية، أن دمشق نجحت في بناء جدار نفسي يحول دون انخراط الدول العربية المعنية بلبنان وبأزمته في مسار الحل إيجابياً. صحيح أن العرب منحازون إلى لبنان وإلى مطالبته باستقلاله وسيادته، لكن انحيازهم ما زال انحيازاً سلبياً، في حين ان دمشق منحازة انحيازاً كاملاً و إيجابياً يصل إلى درجة التوجيه والتلقين والملاحقة الميدانية.
هذا الاختلاف في الحركة والممارسة وبالتالي النتائج، يعود إلى وجود مشكلة لم تعد سرية ولا محرّمة على الحديث بين دمشق ومجمل العواصم العربية وفي مقدمتها الرياض والقاهرة. وهي لا تتوانى عبر "رجالها" عن شن حملات مباشرة أو غير مباشرة وصلت في بعضها خطوطاً كانت حتى الأمس حمراء. وما هذا إلا لأن دمشق مقتنعة بأن هذا الأسلوب ناجح لأنه يعوق القرار العربي بالانخراط في إيجاد الحل للأزمة اللبنانية، مما يطلق يديها في فرض ما تريد تحت لافتة برّاقة عنوانها "التوافق" بين اللبنانيين، هذا التوافق المطلوب والمرغوب، والممنوع في الوقت نفسه، بانتظار معرفة ماذا تفهم وتريد دمشق عبر حلفائها ورجالها بهذا التوافق.
الطريق الوحيد لإسقاط هذا الجدار يكون في تكثيف الدول العربية زياراتهم إلى لبنان والقول علناً من بيروت ما يريدونه فعلاً وهو حصول لبنان على رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري المحدد وأن يحصل اللبنانيون على كامل استقلالهم وسيادتهم. فالحضور إلى بيروت فعل انحياز كامل إلى الاسراع بالحل، مما يطمئن اللبنانيين بأنهم ليسوا وحدهم في مواجهة الإعصار، علماً بأن كل ذلك لا يلغي مثلاً من أن الديبلوماسية السعودية ناشطة كعادتها بصمت وفعالية، بعيداً عن الاعلام، مثلما فعلت دائماً وهي تقدم المساعدة تلو المساعدة المالية، حتى لا يسقط الاقتصاد اللبناني نهائياً في الحفرة العميقة للأزمة السياسية.
مهما تكن الصراحة أحياناً قاسية، فإنها تبقى منتجة خصوصاً وأن النوايا صادقة. اللبنانيون يريدون "أن يأكلوا عنب الاستحقاق، لا أن يقتلوا الناطور" أو من يلعب دوره، وهو بعيد عنه بعد السماء عن الأرض، ولذلك عسى أن تدفع الساعات القليلة التي سيمضيها أبو الغيط في لقاءاته ببيروت إلى العودة مع أكثر من وزير عربي على غرار وزراء "الترويكا" الأوروبية، لأنه في النهاية أمن لبنان من أمن المنطقة كلها، واذا كانت عواصم هذه "الترويكا" وهي باريس ومدريد وروما قد استوعبت ان لبنان يشكل حلقة القطع والوصل بين رياح "العرقنة" المخزونة حتى الآن في العراق، ورياح "الطالبان" المندفعة من أفغانستان فباكستان، فإنه من الطبيعي إذاً أن يعرف كل العرب طبيعة هذا الخطر.
"عنب الاستحقاق"
"عنب الاستحقاق" الذي يريد اللبنانيون أن يأكلوه قبل 24 تشرين الثاني، يبدو موجوداً. ذلك ان باريس أصبحت مقتنعة بعد عودة "الطبيب الديبلوماسي" برنار كوشنير "ان رئيساً جديداً للجمهورية سيدخل قصر بعبدا في الموعد الدستوري المحدد"، واستكمالاً لذلك فإن باريس تبدو "مقتنعة بأن اللبنانيين سيتوصلون إلى حل يبعد ظلال الفراغ والخراب عنهم".
هذا "الاطمئنان" و"الاقتناع" معاً اللذان تشعر باريس بهما لن يجعلها تبطئ مساعيها. فالاندفاع واستمراريته شرطان لايصال "القطار" إلى نهاية رحلته. ذلك أن باريس تعرف جيداً ان انتخاب رئيس للجمهورية وإن كانت له الأولوية المطلقة لا يكفي، اذ يبقى بعد الرئاسة تشكيل الحكومة والاتفاق على برنامجها وخططها ووضع قانون جديد مقبول للانتخابات التشريعية. والأهم من كل ذلك كيفية اخراج لبنان من حالة الكوما (الغيبوبة) الاقتصادية في زمن الطفرة النفطية غير المسبوقة.
ويبدو ان باريس مقتنعة أكثر من أي وقت مضى، انها وهي تمد يدها إلى دمشق وتحاول ان تفتح معها حواراً لبناء علاقات طبيعية، تلوح منذ الآن بأن الرد على عدم المساهمة في حل الأزمة الرئاسية في لبنان، يعني حكماً آلية جديدة تكون خارجة من الغضب على فشل كل المحاولات التي لم تجر يوماً تحت بند التغيير وإنما تحتسب السلوك. وبذلك فإن هذه الآلية اذا ما صيغت ونفذت ستعني "طلاقاً بائناً" لا عودة عنه، مع ما يعني ذلك من محاذير ومخاطر.
دمشق تتمنع على عواصم القرار العربية وهي تعلم أنها بحاجة لها. ولذلك فإن التدخل المباشر وآلية عربية جديدة تواكبها "تبعده عن المنعطفات الخطرة" وتعجّل بالحل خصوصاً اذا ما تقاطعت مع أوروبا في الوقت المناسب. هذا الحل الذي ينقذ لبنان ويحصّن معه المنطقة كلها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.