تتساءل باريس بكثير من الجدية الممزوجة بالقلق: هل أخطأ الرئيس نيكولا ساركوزي بالتفاوض مع دمشق؟ وهل كان عليه متابعة سياسة الرئيس جاك شيراك أي اقفال الأبواب مع دمشق وفي وجهها؟.
باختصار هذا التساؤل وغيره، واجهة لسؤال أكثر واقعية وهو أين نجحت وأين فشلت السياسة الفرنسية في الأزمة اللبنانية، خصوصاً وأن نهاية الاستحقاق الرئاسي الموافقة منتصف الليل، انتهت دون انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، مع العلم ان الجهود التي بذلتها وتبذلها الديبلوماسية الفرنسية منذ أسابيع غير مسبوقة في تاريخ ديبلوماسيتها لمواجهة أزمة خارجية.
الاجابات الفرنسية الأولية
لدى باريس اجابات عديدة، أو على الأصح اجابات أولية تنتظر التطورات اللاحقة لاستكمال بناها وتوضيح ألوانها ومفاعيلها. من ذلك ان الرئيس نيكولا ساركوزي القادم الى الرئاسة على قاعدة الانفصال عن عهد شيراك، ولبناء حضور خاص به قد يفتح الباب أمامه لدى انتخابه لولاية ثانية، الى وضع نقطة في تاريخ الجمهورية الخامسة، والتقدم لانشاء الجمهورية السادسة ليطاول بذلك قامة الجنرال شارل ديغول.
ومن الطبيعي أن يدفع هذا التوجه بساركوزي إلى خوض تجارب وحتى مغامرات سياسية على قاعدة شخصية وهو انه بعد الرئاسة طموحات اخرى. ولذلك كان تحرك ساركوزي منذ اليوم الأول لتسلمه الرئاسة في كل الاتجاهات داخلياً وخارجياً، وهو وجد في لبنان وأزمته مساحة تسمح له بالاندفاع بأقصى قوته. ومما يعزز ذلك، العلاقة الخاصة لفرنسا بلبنان على جميع الصعد وخصوصاً الشعبية. فالفرنسيون يجدون في معالجة الأزمة اللبنانية جزءاً من يومياتهم ويرحبون بكل تحرك رسمي تجاهه.
الرئيس نيكولا ساركوزي الذي يعرف الملف اللبناني ومعه دمشق منذ كان وزيراً للداخلية بكل تشابكاتها وتجاذباتها الأمنية، أراد احداث اختراق كبير وقوي، فكان أن اختار الاندفاع باتجاه وسط "الجبهة" بدلاً من الاشتباك مع "الميمنة" أو الميسرة". باختصار فتح الحوار مع دمشق انطلاقاً من موقعها ودورها في الأزمة اللبنانية عبر علاقاتها القوية والمتينة مع الحلفاء والتوجيه مع من تعتبرهم "رجالها".
لكن الرئيس ساركوزي وهو يقوم بذلك لم يلحظ أمران مهمان: أن دمشق بارعة جداً بالتفاوض والمقايضة من جهة وانها أيضاً تفاوض وهي تمسك بلبنان الواقف على حافة الهاوية. وفي حين تريد باريس ومعها المجتمع الدولي الحل بأسرع ما يمكن، فإن دمشق ليست مستعجلة أبداً. لا بل انها تفضل التأجيل والمماطلة والتسويف أقصى ما يمكنها. لأن كل يوم لا تحل فيه الأزمة يمنحها قوة اضافية تستثمرها في اطالة قائمة مطالبها. ولذلك فإن ترك باريس باب التفاوض مع دمشق حتى منتصف هذا الليل، وموافقة الرئيس جورج بوش على تفويضها لإنتاج الحل وانتخاب رئيس بالتوافق، قد رفع من رصيد دمشق، وربما كان من الأفضل كما يرى البعض في باريس ان لا تبقى الاشارة خضراء بل ان يكون في تاريخ محدد اشارة صفراء تمهد للاشارة الحمراء.
الفعل الخاطئ
رغم دقة وشفافية هذا التوجه الا ان الواقع يؤشر الى أبعد من ذلك كما يرى البعض وهو ان دمشق لم يكن يعنيها من تفاوض باريس معها سوى متى وكيف سيفتح الباب الأميركي امامها، لكي تتفاوض مع واشنطن مباشرة بلا وسيط. فدمشق تؤمن جدياً بأن واشنطن هي التي تعطي وهي التي تأخذ وليس أحد غيرها. واشنطن هي التي اعطتها لبنان "جائزة" لادخال الجولان وملفه في حالة الكوما.
أولاً فإن حرب "عاصفة الصحراء" هي التي ثبتت استقرارها الأمني والسياسي. كما ان رفع واشنطن غطاءها عن وجودها في لبنان بعد ثورة الأرز هو الذي فرض خروجها العسكري والأمني من لبنان.
أكثر من ذلك وكما تعترف اوساط فرنسية رسمية، ان باريس ذهبت بعيداً وهي تتجاوز وتفاوض طهران في وهم الفصل بين الملفين اللبناني والنووي الايراني، ومما زاد بالطين بلّة، ان باريس لم تمسك جيداً بنتائج ابعاد علي لاريجاني عن التفاوض حول الملف النووي الايراني وانعكاساته على التفاوض حول حل الأزمة اللبنانية. وما حصل فعلاً ان الرئيس أحمدي نجاد جعل من الملفات المتعددة منها لبنان في سلة واحدة مع الملف النووي، ولذلك كان لا بد للموقف الفرنسي "السلبي" من الملف الحساس والدقيق لأحمدي نجاد، من ان ينعكس تصعيداً واضحاً. ومن الطبيعي جداً ان دمشق التي تمايز موقفها حتى هذه اللحظة الحرجة، مع طهران التي ترى ضرورة انقاذ السلم الأهلي في لبنان وتسهيل انتخاب رئيس للجمهورية، ان تستثمر التصعيد الايراني لمصلحة موقفها وبالتالي رفع سقف مطالبها مع باريس من جديد.
والترجمة المباشرة لهذا التصعيد، أن دمشق التي كانت قد أبلغت باريس استعدادها وقبولها لانتخاب رئيس توافقي من بين مرشحين أو ثلاثة ـ كما جاء عملياً في مبادرة البطريرك صفير، عادت وعبر حلفائها الى الكلام عن مرشح واحد أو لا أحد.
الأهم من كل ذلك، كما تعترف أوساط فرنسية مطلعة، غياب آلية فاعلة ومؤثرة في مواجهة دمشق. وهذا الغياب ليس فرنسياً وإنما أيضاً أميركياً.
والدليل ان أي سؤال عن آلية لمواجهة فشل انتخاب رئيس للجمهورية يثير نوعاً من الانقباض والانكماش. ومما يساهم في ذلك ان سقف القرارات الدولية قد وصل الى أقصى ارتفاعه وأن أي اضافة عليه ربما تكون مستحيلة لأنه يجب الأخذ في الاعتبار الموقفين الصيني والروسي معاً. وإن أكثر ما يطمئن دمشق الآن وغداً وحتى اشعار آخر، ان لا احد يريد تعريض دمشق لأيّ هزة، لأنه يكفي المنطقة "زلزال" العراق. لذلك يبقى البحث عن آلية مؤثرة ومنتجة هو المهمة الكبرى لباريس وواشنطن اذا فقد الأمل من الأزمة في لبنان.
مشكلة المشاكل ان واشنطن لا ترغب فعلاً بفتح الأبواب في وجه دمشق ولا هي تريد فعلاً شطبها من دائرة احتمالات التفاهم معها تبعاً لحزمة الملفات التي تتعامل معها. وهذا كله يربك اي مسار للتسوية سواء قامت به باريس أو أوروبا مجتمعة. ولذلك تفاوض دمشق ورجلاها في ماء بارد، في حين تفاوض باريس وهي ممسكة بالكستناء الساخنة.
أما اللبنانيون فينتظرون معجزة بحجم عودة الجولان بديلاً لبلادهم الى دمشق بأسرع ما يمكن خصوصاً وأن أيديهم بالنار.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.