هذه المرة، الحل في لبنان، ومن أجل لبنان، أو لا حل، ولا لبنان. الفراغ المنظم "نظام" خطير جداً، وهو أخطر بكثير مما يتصوّر البعض. الأسبوع الأول منه من الصعب تحمّله، لأن القلق شامل وعميق، لكن كل يوم بعد ذلك تحويل المؤقت الى دائم. اللبنانيون الذين اعتادوا الحرب الأهلية، وتعايشوا مع خطوط التماس والقناصة، وانقطاع الخدمات العامة وأولها الكهرباء، طوال 17 سنة قادرون على التعايش والتكيف مع الفراغ، بحيث يتحول يوماً بعد يوم الى نظام مقبول حتى تحين الساعة وتكتمل المعادلات.
أزمة بمسؤوليات متعددة
أخطر ما في هذا الفراغ أنه "نظام" يقوم على "مصنع" للبارود وليس برميل بارود واحدا. الأزمة اللبنانية ليست لبنانية فقط. التداخل بين الخارج والداخل أكثر وضوحاً حتى للمصابين بعمى الألوان. وهذا التداخل هو الخطر الفعلي، لأن لا شيء يمنع من أي تحول أو انقلاب في موقف خارجي من تقريب النار شبراً من هذا "المصنع". والأسباب أكثر من أن تحصى، وأخطر من أن تختبر.
الأزمة اللبنانية تدور في ظلال أزمات محلية وعربية واقليمية ودولية كل واحدة منها تحمل بذور حرب مكتملة فكيف اذا اجتمع بعضها أو كلها في لحظة معينة. كلما أسرع اللبنانيون بالاتفاق، ابتعدوا شبراً عن النار الكامنة في كل الزوايا. قد يكون هذا الاتفاق ليس ملك أيديهم فقط، لكن مجرد الوعي بهذا الواقع كافٍ.
اللبنانيون، بطوائفهم وأحزابهم وقواهم يتحملون أوزار هذا الوضع. مسؤوليتهم كبيرة وربما متساوية.
فالأزمة ليست طارئة، ولا هي نتاج فشل الانتخابات الرئاسية فقط. الأزمة وقعت منذ "زلزال" 14 شباط عندما لم يتوحد اللبنانيون جميعهم تحت شعار الاستقلال والسيادة والحرية في جبهة واحدة، فاختلفوا وتفرّقوا وتناحروا، وتركوا الأبواب مشرّعة لأهل الخارج لدخولهم وتدخلهم. وكان أخطر الداخلين، دمشق التي لم تبلع مطلقاً مرارة خروجها العسكري والأمني والاقتصادي. استمرار الاختلاف على رئاسة الجمهورية يشكل نهاية لهذا المسار.
رغم هذه الشراكة في المسؤولية، فإن للمسيحيين وخصوصاً الموارنة حِصة كبيرة، والمسيحيون هم "ملح" التركيبة اللبنانية، وهم أيضاً ومن دون أي تضخيم ولا تبسيط عمود هذا الكيان معهم تبقى خصوصيته، ومعهم تزول، لينتهي لبنان حضوراً ودوراً وربما وجوداً. لذلك من المطلوب المحافظة على هذا الوجود المسيحي، وهذا الحضور المسيحي وهذا الدور المسيحي.
جهود مسيحية مضاعفة
لكن أيضاً لا يكفي ان يكون التصميم بهذه القوة لكي يحصل ذلك، المسيحيون وتحديداً الموارنة عليهم أن يبذلوا جهوداً مضاعفة لكي يحافظوا على موقعهم. الصراخ بوجود "مؤامرة" ضدهم لا يعفيهم من المسؤولية ولا من واجب مواجهتها اذا كانت هي موجودة فعلاً. لا يكفي أن يصرخ أحد محذراً من خطر وجود "بيت العنكبوت" في نهاية المسار. الأهم العمل على وقف الاندفاع وعدم السقوط في بيت العنكبوت للاعلان بعد ذلك، صحة ما حذر منه عن وجود المؤامرة.
من ذلك ان نظام الطائف الذي ولد بعد الحرب الأهلية، لا يزال هو الأسلم حتى الآن للبنان. أي محاولة لكسره أو القفز فوقه نهاية للنظام وربما للبنان. القول بضرورة استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية يعني كسر اتفاق الطائف. قد يكسب أصحاب الشعار جمهوراً مسيحياً، لكنه في النهاية، يسقط هذا المطلب وجمهوره في شباك من يريد سراً أو ضمناً أو علانية كسر اتفاق الطائف ليقيم نظام المثالثة بين السنّة والشيعة والمسيحيين، واذا كانت صلاحيات الرئيس حالياً لا ترضي البعض من المسيحيين فماذا في حال نظام المثالثة؟.
المسيحيون يعرفون أكثر من غيرهم وحسب مختلف الدراسات والاستفتاءات الخاصة انهم لا يشكلون حالياً نصف اللبنانيين، وان الموارنة وان كانوا أكثرية بين المسيحيين، فإنهم حالياً أقلية بين اللبنانيين. قد تكون هذه الأقلية فاعلة ومؤثرة، لكن ذلك لا يكفي في حال المثالثة. واذا كان للموارنة حالياً رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وقيادة المخابرات وحاكمية البنك المركزي ورئاسة مجلس القضاء الأعلى، فماذا سيبقى لهم في نظام غير نظام الطائف؟
الموقف القائم حالياً بسبب الفراغ والمتجسد في تسلم مجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية، يجب ان يبقى موقتاً وتجربة يجب ألا تتكرر. وكلما أسرع اللبنانيون والموارنة في مقدمتهم بالاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية بعيداً من الاستحقاقات القائمة مثل مؤتمر أنابوليس والاستحقاقات القادمة، كانَ ذلك في مصلحة لبنان وجوداً وبقاء.
فن المقايضة و"عقب أخيل"
الآخرون، يستطيعون، استثمار نتائج مؤتمر مثل مؤتمر أنابوليس، دمشق في مقدمة هؤلاء. لديها ما تقايض به وعليه، وهي تملك قدرات أساسية وعظيمة من فن المقايضة. و"الضحية" الأولى سيكون لبنان، لانه إذا لم تكن عودة سوريا إلى لبنان عسكرياً وأمنياً كما في الماضي واردة حالياً وضمن المعادلات القائمة، فان الاعتراف مؤخراً بمصالح مشروعة لها في لبنان عربياً ودولياً، يكفي بالنسبة لها للعودة ببطء ولكن بتصميم وفاعلية وبنجاح، ولا شكّ أن دمشق قادرة على استثمار أي تحول أو حتى خطأ لتوسيع حضورها وانتشارها على قاعدة بقعة الزيت فوق النسيج المناسب.
جميع قوى السيادة والاستقلال خاسرة من مثل هذا التحول. ولكن أيضاً المسيحيون هم أكبر الخاسرين لانهم طالبوا دوماً بالاعتراف بلبنان كياناً مستقلاً ومتكاملاً وعندما لاقاهم معظم المسلمين وقواهم عند هذا الهدف الثمين، لم يعرفوا كيف يستقوون بهذا الموقف لتحويله إلى سور عظيم يحمي لبنان ويحميهم، وما ذلك إلا للخلاف على منصب رئاسة الجمهورية، وتحوّل هذا الخلاف الى "عقب أخيل القاتل".
العودة إلى العقل قبل القلب مطلوبة الآن قبل الغد. وأول كلام العقل أن يتم انتخاب رئيس للجمهورية بسرعة، حتى لا تأتي ساعة تكون فيها التحولات الإقليمية أو الدولية قد فرضت إهمال لبنان وبالتالي تركه لمصيره.
عودة إلى البداية المسؤولية كبيرة على عاتق اللبنانيين ولكن أكثر على عاتق المسيحيين وتحديداً الموارنة منهم، لأن في اتفاقهم إنقاذاً للبنان التعددي في المنطقة، الذي بدون هذه الخصوصية لا معنى لوجوده.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.