عملت دمشق وطهران معاً، طوال الأسابيع القليلة الماضية للتأكيد على إلغاء التمايز في موقفهما من الأزمة اللبنانية، وعندما بدا ان هذه الأزمة المجسدة في انتخاب رئيس للجمهورية دخلت ربع الساعة الأخير، ازداد التركيز على متانة وحدة الموقفين الايراني والسوري، وجرت ترجمته في مواقف حلفائهما ورجالهم معاً.
مؤتمر أنابوليس ومشاركة دمشق فيه ومعارضة طهران له واعتبارها أي مشاركة فيه نوعاً من "التخاذل" المعلن أظهرت تمايزاً واضحاً بين الموقفين السوري والايراني. لكن هذا التمايز لم ينتج خلافاً علنياً، لأن طهران تعرف أكثر من غيرها ان لدى دمشق قضية مباشرة هي قضية الجولان ولا يمكن لمن يديه في النار أن يتعامل مع قضيته، كما تتعامل طهران معها التي تبقى علاقتها مع احتلال الجولان موقف الحليف الملتزم سياسياً وايديولوجياً.
التمايز حول لبنان
تمايز انابوليس لم يبقَ يتيماً. تسارع الأحداث خصوصاً على صعيد الأزمة اللبنانية، كشف تمايزاً جديداً، في حين تبدو دمشق مستعدة للصعود في "قطار" التسوية على صعيد انتخابات الرئاسة اللبنانية، بتيسير انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية لأنه رأس المؤسسة العسكرية التي لا خلاف لها معها، ولأنه يمكن أن يكون منفذاً لالتزامها لانتخاب رئيس بالتوافق بين اللبنانيين مما يعفيها من المساءلة خصوصاً من الفرنسيين. كما ترضي بهذا الالتزام أطرافاً عربية عديدة بينها مصر مما يشكل لها نوعاً من تقديم أوراق اعتماد لها للسعودية تمهيداً للمصالحة والتطبيع على طريق التحضير للقمة العربية المقبلة.
كل هذا في كفّة، وتقديم دمشق لنفسها أمام واشنطن بعد "المصافحة التاريخية" بين وزيرة الخارجية كونداليزا رايس ونائب وزير الخارجية فيصل مقداد، في كفّة. دمشق تريد ابراز قدرتها أمام واشنطن على التعامل مع أزمة ساخنة مثل الأزمة اللبنانية. وأن هذه القدرة تؤهلها لتدوير مختلف الزوايا على صعيد مجموع حزمة الملفات والأزمات التي تعتبر مشتركة في المنطقة.
لكن هذا الموقف السوري لا يكفي للحل. فدمشق لا يمكنها مهما بلغت قدرتها من الامساك بحلفائها وقراراتهم، كما انها لا تستطيع لَي أذرع البعض منهم وخصوصاً "حزب الله"، لأن التداخل الايراني ـ السوري في قلب قرار "حزب الله" يجعل من امكانية انفراد كل واحد على حدة أمراً صعباً جداً ان لم يكن مستحيلاً.
أمام هذا الواقع لا يمكن تجاهل طهران في الحدث اللبناني حتى ولو اكدت دمشق مؤخراً انها تملك تفويضاً ايرانياً بحرية الحركة والقرار في لبنان تبعاً لمصالحها المباشرة الحيوية مع الأخذ بعين الاعتبار وضعية "حزب الله" وخصوصية موقعه ودوره المقاوم والسياسي. والسؤال هنا ما هي حقيقة ارتفاع "سقف" القرار السوري في لبنان، مع الملاحظة ان دمشق عرفت دائماً كيف تعمل على خفضه عندما تكون ضعيفة. كما كان الوضع طوال السنوات الثلاث الماضية أي منذ "زلزال" اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكيف تسارع الى رفعه بمجرد شعورها بقوة حضورها الأحادي!.
مفاجأة "المستقبل"
طهران، ومهما كابرت، فوجئت كما "حزب الله" كما يبدو بالضربة الالتفافية الذكية لكتلة "المستقبل" بترشيح العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية. وأمام قوة المفاجأة ظهر التردد جلياً في موقفي "حزب الله" وطهران. ولم يجدا حلاً لذلك سوى اخفاء "غابة" موقفهما "بشجرة" موقف العماد ميشال عون. وقد ثبت أيضاً وبسرعة ان الجنرال عون ابن المؤسسة العسكرية لا يمكنه مطلقاً معارضة انتخاب قائد هذه المؤسسة الوطنية. ولأنه لم يكن من الأمر بد فإن عون قال نعم كبيرة للعماد سليمان مع ربطها بلكن لحفظ موقع له في مفاوضات اللحظات الأخيرة.
طهران بدورها التي شددت دائماً على التزامها باستقرار وأمن لبنان ورفضها المطلق لأي حرب "أهلية ساخنة" سنية شيعية، لا يمكنها الاستمرار في رفض هذا التحول لأن فشل انتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية، يعني سقوط الفراغ المنظم وانفجار الوضع مع تحمل تحوّل رئيسي من جانب المؤسسة العسكرية على صعيد الأزمة، لأن الأوراق أصبحت مكشوفة ولا يمكن اخفاء النوايا ارتكازاً على استمرار بقاء أوراق مستورة.
طهران مصرّة على أن "النافذة" التي فتحها "تيار المستقبل" في الأزمة الرئاسية، كانت مفاجئة وكان الأفضل تنسيقها، وعدم رميها دفعة واحدة، مع العلم أنه لا يمكن لأي خصم أن يطلب من خصمه عدم مفاجأته، خصوصاً أن "أم" الانتصار في "الحرب" تحقيق المفاجأة. طهران ومعها "حزب الله" لن يعلنا هزيمتهما. فالواقعية السياسية التي تؤطر دائماً رغم التلاوين الايديولوجية حركتهما السياسية، تفرض عليهما التعامل مع النتائج وليس ادارة ظهرهما لها.
"حزب الله" قادر على الاستمرار في حركته السياسية على قاعدة "البينغ بونغ"، أي رمية من هنا تقابلها رمية من الطرف الآخر. كما انه يستطيع دائماً تغطية ظهره بمواقف الجنرال ميشال عون، فالحزب لا يريد ولن يغدر بحليفه الذي التزم به ولم يخذله طوال اكثر من 16 شهراً. ولذلك كله فإن التحركات كلها هي لتحسين المواقع وأخذ الضمانات المستقبلية، بالتنسيق مع طهران.
القمة الخليجية والاعتدال الايراني
طبعاً طهران قادرة على التعامل مع دمشق ومطالبتها باحترام أصول وقواعد "الزواج" القائم بينهما. ومما يعزز ذلك ان "حرب الورود" بين "الزوجين" الايراني والسوري لن تندلع اليوم ولا غداً، لأن الطلاق بينهما ليس مطروحاً. لأن العلاقات بين دمشق وواشنطن ما زالت في مرحلة تقديم أوراق الاعتماد وابراز النوايا الطيبة، كما ان مسار الأزمة بين طهران وواشنطن آخذ بالابتعاد عن المواجهة المسلحة، خصوصاً وأن محاولة واشنطن لتسوية النتوءات في المواقف العربية، تمهيداً لحشدها ضد طهران لم تنجح في انابوليس. كما ان دعوة القمة الخليجية طهران لأول مرة للمشاركة في القمة، لا يمكن ان يكون مدخلها المساهمة في تعقيد ازمة عربية بحجم الأزمة اللبنانية الحساسة لكل دولة خليجية وخصوصاً للسعودية. بالعكس، المفروض ان تقدم طهران أوراق اعتمادها للقمة الخليجية ممهورة بختم الاعتدال وتسهيل الحلول في لبنان.
مسار الحل للأزمة اللبنانية ما زال طويلاً حتى ولو كانت بدايته حالياً انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. واذا كان البحث لا بد أن يتناول كما ترى طهران عبر "حزب الله"، تركيبة النظام اللبناني الجديد، فإن الهم الأساسي لهما الضمانات المفروضة حول مستقبل سلاح المقاومة، ويبدو ان "حزب الله" تلقى ضمانات بأن بند نزع سلاح المقاومة ليس مطروحاً طالما لم تتحرر مزارع شبعا ولم يطلق سراح الأسرى اللبنانيين لدى اسرائيل الى جانب الاتفاق على استراتيجية دفاعية مستقبلاً.
في الوقت نفسه يجري تدعيم هذا الموقف دولياً كما في تصريح السفير الأميركي جيفري فيلتمان بأنه "لا يتوقع من الرئيس العتيد أن يعمد الى نزع سلاح حزب الله".
هل يمكن الاطمئنان والتفاؤل لكل هذه المؤشرات والتحولات والقول انه سيكون للبنانيين رئيس للجمهورية ينهي حالة الفراغ المنظم ومخاطر انهياره أمام أي اختبار قوة في منطقة تعيش في ظلال أزمات اقليمية ودولية بعضها مصيري؟
التفاؤل بلا حساب خطر أمام أزمة مثل الأزمة اللبنانية المفتوحة على كل الاحتمالات حتى الثانية الأخيرة منها. والتشاؤم بلا حساب محبط وقاتل. لكن من الواقعية القول ان القرار بترشيح العماد ميشال سليمان، وضع القوى اللبنانية والعربية والاقليمية والدولية، كلاً منها أمام لحظة الحقيقة التي لا مهرب منها، مهما كانت قدرة أي فريق على المناورة ضخمة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.