نقطة واحدة تستحق الانتباه والتقدير في المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية السوري وليد المعلم، وهي اعترافه علناً "بأن لفرنسا علاقات مع الطرفين في لبنان، بينما ليس لدمشق من علاقات سوى مع 8 آذار". كل شيء بعد هذا الاعتراف، مجرد تفاصيل، رغم أن "الشيطان" يكمن في التفاصيل.
هذا الاعلان الرسمي، لانحياز دمشق الى قوى 8 آذار ليس مفاجأة لأنه واقعي وثابت. انه اعترف علني، وان كان ضمنياً انه في قلب "عسل" كلامه عن طلب الحل التوافقي، يكمن "سم" انحيازه الكامل لمطالب المعارضة.
الانحياز المفضوح
طبعاً لا أحد يدين هذا الانحياز. انه انحياز طبيعي جداً، لكن أيضاً من الطبيعي جداً، أن يعمل هذا الطرف كل جهده لتحقيق انتصار القوى التي انحاز اليها، وليس أن يعمل لانجاز حل ينقذ لبنان كما يريد الفرنسيون، من خلال اجراء الانتخابات الرئاسية كما يجب في موعدها الدستوري. هذا الهدف الذي لم يتحقق حتى الآن.
منذ أن دقت باريس باب دمشق للعثور على حل للأزمة في لبنان، استقوت دمشق. أخيراً عرفت باريس ومعها أوروبا ان لبنان "ملك يديها" وأنه "أغلى رهينة" حصل عليها أحد في عالم الرهائن البشرية أو السياسية على السواء. هذا العلم أرادته دمشق خبراً يتم البناء عليه، وهذا ما حصلت عليه.
الرئيس نيكولا ساركوزي ارتكب خطأ كبيراً عندما دخل المفاوضات رغم انه يفاوض على تحرير "رهينة" وليس توقيع اتفاق شراكة استثنائي أو عادي، بعدما أبلغ دمشق، ان هذه المفاوضات تتعلق فقط "بتحسين سلوكها" لا أكثر ولا أقل، وان المفاوضات مفتوحة على كل النوايا الطيبة، رغم ارتباطها باستحقاق دستوري تاريخه محدد ومعلن.
هذا الاطمئنان دفع دمشق لاطالة أمد المفاوضات لأنه كلما ازداد قلق "الأهل والأصدقاء والأحياء" على "الرهينة" جرى استنزافها وفرض مزيد من التنازلات عليها. وقد لمست دمشق نجاح استراتيجيتها، في رفع مستوى التفاوض معها تدريجياً من قبل فرنسا من السفير جان كلود كوسران الى كلود غاين الى الرئيس نيكولا ساركوزي عبر الهاتف.
والأهم من كل هذه المفاوضات، ان تل أبيب تشجعت في زمن تراجع الرئيس جورج بوش وادارته. وأصبحت تطالب بفتح باب التفاوض مع دمشق. بهذا لم تعد دمشق بحاجة لانتظار الادارة الأميركية الجديدة فقد اكتملت برأيها المعادلة.
واشنطن ضعيفة. فرنسا مستعدة لتقديم تنازل بعد كل تنازل، العرب يريدون انقاذ لبنان دون ان يخسروا سوريا العربية.
للصبر حدود
نقطة واحدة، لم تنتبه لها دمشق وهي ان "للصبر حدودا" وان للتنازلات الفرنسية نهاية حتى لو كانت النتيجة وقف الاتصالات والتفاوض واستمرار مصير لبنان معلقاً حتى اشعار آخر، رغم ان هذا المصير معلق فوق بركان يثور من وقت الى آخر، وكلما ثار وضع اللبنانيون ايديهم على قلوبهم خوفاً من الحمم القاتلة. ذلك ان ذكريات الحرب الأهلية ما زالت موجودة وشواهدها قائمة في آلاف العائلات المنكوبة ومئات المباني المهدمة حتى الآن.
الفراغ، هو سيد الأزمة اللبنانية حالياً وحتى إشعار آخر. وهذا الفراغ مطلوب من دمشق بقوة حتى إنجاز انتصارها وفوز المعارضة اللبنانية، بالنقاط هذه المرة، بانتظار ان يتحول بعد أشهر إلى انتصار بالضربة القاضية.
هذا الانتصار سيعيد دمشق إلى لبنان سواء أرادت المعارضة وعمودها الفقري "حزب الله" وحليفه "التيار الحر" ام لم يرد. ليس خافياً أبداً أن دمشق تريد العودة إلى لبنان اليوم قبل الغد. لكن هذه العودة ما زالت مستحيلة حتى الآن. وحده الانزلاق من حالة الفراغ إلى هاوية الفوضى، تعيد دمشق إلى لبنان، ذلك ان دخولها إلى لبنان واستقرارها فيه كان في كل مرة استطاعت عبر دفع حلفائها سواء بإرادتهم أو رغماً عنهم، عن وعي منهم أو بلا وعي نحو الفوضى القاتلة والمدمّرة.
في كل تلك المرات التي استقرت فيها دمشق في لبنان بالاتفاق مع واشنطن، كان العنوان الرئيسي للاتفاق أن اللبنانيين "غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم".
حالياً تعمل دمشق على الوصول عبر الفراغ إلى مثل هذه النتيجة حتى تعود إلى بيروت مباشرة أو عبر إعادة فرض سياستها في "وحدة المسار والمصير" أما الباقي فمجرد تفاصيل.
الفشل وعودة "المخلّص"
مجرد سحب الوزير المعلم عملية التفاوض من الرئيس نبيه بري ووضعها في الرابية عند العماد ميشال عون يعني انه لا يريد الحل. فالعماد عون يريد الرئاسة له عبر تفشيل انتخاب العماد ميشال سليمان ليكون بذلك "المخلص" كما يحلم منذ زمن طويل، والخلاص الذي يريده، يتضمن تعديل الطائف حكماً، لانه يريد استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية التي سحبها اتفاق الطائف في إطار "الشراكة بالمناصفة"، علماً أن في مثل هذا الخطاب الشعبوي مشروع حرب جديدة. لأن تعديل الطائف كما يريد ا لعماد لا بد أن يصطدم "بالحائط الشيعي" أولاً ومن ثم الحائط السني ثانياً. ومن ذلك أن الشيعة وعلى رأسهم الرئيس نبيه بري لن يقبلوا بسحب مكتسباتهم التي حازوها ومنها ولاية رئيس المجلس لأربع سنوات كاملة. والتي هي جزء من حقوقهم مع العلم انهم قبلوا كما السنّة الشراكة بالمناصفة حفاظاً منهم على "ملح" التركيبة اللبنانية أي المسيحيين ولا السنة على سبيل المثال، ايضاً سيقبلون سحب حقهم بالنتيجة الملزمة للاستشارات النيابية لاختيار رئيس للوزراء.
هذا هو الواقع، فلا يفتحنَّ أحد باب تعديل الطائف مهما كانت دواعيه وأسبابه. الوقت الآن هو وقت الحل والخروج من الأزمة، لانه كلما اعتقد البعض أن الفراغ المنظم نظام ممكن التعامل معه، ارتفع الخطر درجات، وخصوصاً أن إعلان المعلم يؤشر منذ الآن إلى تصعيد مفتوح "لكسر يد فرنسا" والاثبات لها انها بدون دمشق لن تفعل شيئاً أكثر من النظر من بعيد إلى "الرهينة" بحسرة. ايضاً إلى اجبار العرب وتحديداً الرياض والقاهرة بالاستسلام لنهجها ومسارها واستثماراتها السياسية مع الآخرين من كيس غيرهم كما اعتادوا.
عيدية "المعلّم" للبنانيين مزيدٌ من الأيام الصعبة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.