ملأ نيكولا ساركوزي "دنيا" فرنسا، وشغل الفرنسيين وما زال. عام 2007 فرنسياً كان عام ساركوزي المرشح والرئيس.
"ساركو" أو "الرجل المستعجل"، أصبح الرئيس ساركوزي بعد أن قدم ألف وعد ووعد خلال حملته الرئاسية على قاعدة احداث "انقطاع" بين القديم والجديد في عوالم السياسة والاجتماع والاقتصاد. سارع الرئيس الجديد ومنذ دخوله الى قصر الاليزيه، الى إبراز "شمعة على طوله". دخل الاليزيه الذي يلتزم تقاليد وبروتوكولات تعود الى أيام الثورة الفرنسية، أي أكثر من مائتي سنة، باللباس الرياضي، فكانت الدهشة أكبر من الصدمة لدى الفرنسيين لكنهم قالوا انه رئيس شاب، ويحق للشباب ما لا يحق للرؤساء المتقدمين في السن.
لم يكتف الرئيس الشاب بذلك، طبع قبلة بدت سينمائية على فم زوجته سيسليا، لأن الفرنسيين كانوا يعرفون قصتهما معاً. ولم يطل الأمر حتى كان الطلاق، بعد أن طغت عليه إعلامياً في قضية الممرضات البلغاريات السجينات في ليبيا. قلب الفرنسيون أيضاً صفحة سيسليا والطلاق، وقبل أن يستفيقوا فاجأهم ساركوزي بقصة حب مع صحافية ثم مع عارضة الأزياء كارلا بروني. ومع هذه الأخيرة سقطت كل الممنوعات، فقد أصبح رئيس فرنسا مع "حبيبته" الجديدة بين اثارات الأقصر في مصر، أفضل الموضوعات المصوّرة للصحف والمجلات الشعبوية.
الرئيس ساركوزي يريد أن يكون في كل شيء شفافاً. فالرؤساء، الذين سبقوه باستثناء الرئيس شارل ديغول كان لكل واحد منهم عدة قصص، لعل أفقعها الرئيس الراحل فرانسوا ميتران وعشيقته المقيمة الى جانبه وابنته منها. فلماذا السرية إذن؟!
هذه العلنية دفعت الكثيرين من علماء الاجتماع وغيرهم الى البحث في شخصية ساركوزي، ولذلك خرج البعض بتوصيف جديد خارج من هوليوود الأميركية التي يحبها وهو "الهوليوودي". أي كانت صحة هذا التوصيف فإن "شجرة" علنية حياة ساركوزي المعقدة والمتشابكة لا يمكن أن تغطي على يوميات الأزمة أو الأزمات في فرنسا، وكيف يواجهها.
ساركوزي ليس تاتشر
فرنسا مريضة، وهي بحاجة الى علاج حقيقي، وكان الفرنسيون وحتى الخبراء يأملون أن يكون ساركوزي "الطبيب" الذي يعالجها برؤية كبيرة واستراتيجية واضحة وفاعلة ومنفتحة على المديين القصير والطويل. لكن يبدو أنه يوماً بعد يوم يثبت أنه "غير قادر على اتخاذ إجراءات بما يكفي لإنجاز الاصلاحات. إنه كما يقول دنيس ماكشين النائب عن حزب العمال البريطاني: "إنه أشبه بنيدهيث منه بالمرأة الحديد مارغريت تاتشر أو طوني بلير إنه حتى ليس شبيهاً بميتران، إنه شخصية فوقية".
هل يظلمون الرئيس نيكولا ساركوزي؟ ولماذا؟
الفرنسيون المستعجلون أكثر من ساركو، الذين انتخبوه بأغلبية واضحة بعد أن أقبلوا على صناديق الاقتراع بكثافة غير مسبوقة (83%)، ثم منحه 64% من الفرنسيين ثقتهم، سرعان ما تراجعوا بعد انتهاء فترة السماح (المئة يوم الأولى) وقبل أن تنتهي فترة المئة يوم الفعلية من ولايته الـ49 بالمئة وهي نسبة لم تحصل مع أي رئيس في الجمهورية الخامسة وبمثل هذه السرعة الصاروخية.
التجربة الأولى لساركوزي كانت مع اضرابات اتحادات العمال، جرى شل قطاع النقل، ومعها تقريباً الحياة العامة. فلا العمال قبلوا باقتراحاته، حول اعمل أكثر واربح أكثر، ولا بكل ما يتعلق بالتقاعد. وانتهى الاضراب دون نتيجة تقريباً. سجل ساركوزي نقطة لصالحه، لكن استراتيجياً لم يقدم أي جديد يؤكد تصميمه على التغيير. فأعلن فشله.
التجربة الثانية: الضواحي، اشتعلت في إحدى الضواحي نتيجة لحادث اصطدام بين سيارة للشرطة ودراجة قُتل بنتيجته المراهقان اللذان يقودونها. اشتعلت الضاحية وأصيب في أعمال الشغب التي اندلعت 119 شرطياً بجروح بعضهم بالرصاص لأول مرة. كل ما جرى بعد ذلك، محاكمات سريعة للمشاغبين. أخمدت النار تحت طبقة كثيفة من الرماد. لكن لم تتم معالجة الوضع ومواجهة واقع "حزام" الضواحي الذي يهدد فرنسا بما يشبه بالحرب الأهلية ولذلك فإن الفرنسيين يحسبون ألف حساب لهذه القنبلة الموقوتة التي يعيشون فوقها، والتي من أبرز مظاهرها أنه في العام 2006 أحرقت 44 ألف سيارة أي ما يوازي نصف ما أحرق في كل الولايات المتحدة للعام نفسه، هذه المشكلة الخطيرة الحالية والمستقبلية في فرنسا هي أيضاً نتيجة "هدر مبالغ تقدر بالبلايين في حزام الضواحي وذلك بسبب سوء الادارة وغياب الخطط المتجانسة" حسب تقرير ديوان المحاسبة الفرنسي.
ثورة بلا عواقب
أما المرض الحقيقي الذي يحتاج الى معالجة فورية وطويلة الأجل فهو الاقتصاد، ذلك أنه قبل ربع قرن كان الاقتصاد الفرنسي أكبر من الاقتصاد البريطاني بنسبة 15 بالمئة وينمو بسرعة أكبر. حالياً الاقتصاد الفرنسي أصغر بعشرة بالمئة من نظيره البريطاني والأخطر وجود هجرة أدمغة وصلت الى 400 ألف الى الولايات المتحدة وحدها، ويرافق كل ذلك تراجع القدرة الشرائية لثلاثة أرباع الفرنسيين، وتجاوز عدد الفقراء 3.7 ملايين فرنسي.
المشكلة أن الرئيس ساركوزي يريد ثورة اقتصادية لكنه ما زال يريدها حسب الخبراء بدون عواقب. وهذا ما يبقيه جامداً. ما لم يجد صيغة تحقق الاصلاحات العميقة المطلوبة يقبل الفرنسيون تحمل "أوجاعها" من جهة ويتحمل هو نتائجها شعبياً، فان فرنسا ستتراجع مما سيضعف دورها داخل الاتحاد الأوروبي وهو في بداية توسعه وصعوده.
اختار ساركوزي، أن يكون في كل مكان وفي كل القرارات، فاختزل عملياً الدولة في شخصه ومساعديه. ووصل به الأمر الى وصف رئيس الوزراء فرنسوا فيون، بأنه "أفضل مساعد له". مما تسبب بأزمة سياسية اضطر على أثرها تقديم تراجع سياسي. ولذلك بدا الوزراء حتى الآن شبه غائبين عن المبادرات. رجل واحد هو نيكولا ساركوزي مع مساعديه يقدم على كل المبادرات، وهذا ليس في مصلحة دولة لها مؤسساتها القائمة منذ أكثر من قرنين.
وبرز هذا التركيز لسياسة الدولة كلها في الشؤون الخارجية. نيكولا ساركوزي ومعه زوجته سيسليا عملا على ملفات الممرضات البلغاريات في ليبيا. وإذا كان قد نجح في ذلك، فإنه دفع ثمنها بنصب خيمة للعقيد القذافي في قلب قصر الضيافة في باريس أثناء زيارة دولة له. وقد برر ذلك بصفقات بلغت قيمتها عشرة مليارات يورو من الأسلحة وغيرها.
مبادرة ثانية قام بها شخصياً وقطف ثمارها مزيداً من البريق الاعلامي، كانت في إقرار الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي "معاهدة الاصلاح" بديلاً من الدستور الذي رفض الفرنسيون الموافقة عليه مثلهم مثل الهولنديين. وتهدف الاتفاقية التي سيبدأ العمل بها عام 2009 الى تسهيل اتخاذ القرارات داخل الاتحاد الذي يضم 27 دولة.
ومن أوروبا الى الشرق الأوسط، عبر حوض البحر الأبيض المتوسط، أثناء حملته الانتخابية طرح ساركوزي فكرة حول إقامة اتحاد لدول البحر الأبيض المتوسط. وفور توليه الرئاسة حول الفكرة الى مبادرة. وكان يبدو واضحاً منها أنه يريد الدخول من خلالها طرفاً مباشراً على النزاع العربي ـ الاسرائيلي وحله على أساس أن اسرائيل دولة من دول الحوض المتوسط، وكذلك الدخول طرفاً مباشراً على النزاع الصحراوي ومن ثم إعادة إحياء تعاون دول المغرب العربي ما دام أن اتحادهم ما زال في غرفة العناية الفائقة، ومن ثم دخول تركيا هذا الاتحاد بديلاً من الاتحاد الأوروبي.
المعارضة الحقيقية والمباشرة لم تأت من دول المتوسط نفسه. المعارضة التي وأدته عملياً جاءت من ألمانيا شريكة فرنسا في قيادة الاتحاد. فقد اعتبرت انغيلا ميركل مستشارة ألمانيا أن هذا المشروع يقسم أوروبا بين دول مشاركة في اتحاد منافس ودول منفصلة عنه مما سيخلق نزاعات أوروبية لاحقة. كما أن حل مشكلة تركيا ليست من خلال التصور، رغم ذلك ما زال ساركوزي يأمل في إحياء هذا المشروع مع أن الحل يكون بداية بإقرار السلام في منطقة الشرق الأوسط على قاعدة "الأرض مقابل هذا السلام" وليس في وضع العربة أمام الحصان، أي العمل على الحل بعد الاتحاد. ومن الاتحاد الى لبنان. الجميع رحب بالمبادرة الفرنسية حول الانتخابات الرئاسية في لبنان. لكن ساركوزي الذي أرسل وزير خارجيته برنار كوشنير سبع مرات الى لبنان واتصل هو شخصياً بالرئيس بشار الأسد علناً ثلاث مرات وأرسل "رجله" كلود غيان مرتين الى دمشق وموفده السفير جان كلود كوسران أكثر من مرة الى إيران ولبنان، استعجل كثيراً وضع "ثقته" بوعود الرئيس بشار الأسد. فكان فشله مدوياً، لأن الأسد عاد الى الواجهة والانتخابات الرئاسية اللبنانية تراجعت ليحل مكانها "الفراغ المنظم". وإعلان ساركوزي رسمياً من مصر انه "نفض يديه من هذا الاستحقاق".
يستطيع نيكولا ساركوزي المراهنة على الوقت فهو ما زال في بداية ولايته الأولى وما زال أمامه أربع سنوات ونصف، ليعمل على إعادة تقويم مساره ومسيرته. ومما يدفع الى التفاؤل انه دائماً يردد "بعد الطموح يوجد طموح آخر".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.