اهتم اللبنانيون بزيارة علي لاريجاني مستشار "المرشد" آية الله خامنئي الى دمشق، اكثر بكثير من "اقامته" في القاهرة لفترة أسبوعين. هذا الاهتمام يعود الى أن دمشق وطهران تشكلان منفردتين أو متّحدتين الطرف المركزي في الأزمة اللبنانية. مهما كانت المكابرة، أي قرار يصدر عن هذه العاصمة أو تلك، أو بالاتفاق والاتحاد معاً، وسواء كان قراراً معلناً أو مضمراً، فإن له أثره العميق على مسار الأزمة، باتجاه الحل أو التعقيد.
كل هذا لا يلغي ولا ينفي بأن الزيارة الطويلة للاريجاني للقاهرة أكثر من مهمة. فالقاهرة تبقى عاصمة مركزية في خريطة الشرق الأوسط. وطهران كانت وما زالت تعتبر القاهرة عاصمة على مثلث عواصم المنطقة، حتى لو أن دورها تراجع في السنوات الماضية. ولذلك فإن طهران كانت وما زالت تأخذ في الاعتبار هذا المركز وكل ما يجري فيه وحوله، ولأن هذا هو موقع القاهرة في الرؤية الإيرانية، فإن مصالحتها والاتفاق معها يكون استراتيجياً وليس مجرد "مصالحة سطحية".
لاريجاني المستشار المسموع
ولعل موقع لاريجاني ما يؤكد ذلك، فهو وإن نزل درجة على سلم الأولوية في السلطة عندما لم يعد الأمين العام لمجلس الأمن والمسؤول عن الملف النووي، الا انه ظلَّ مستشاراً للمرشد يشارك بقوة وفعالية في صوغ القرارات الاستراتيجية، وبهذه الصفة يستطيع لاريجاني ان يصيغ مثل هذه العلاقات الاستراتيجية المصرية الإيرانية، أو على الأقل هذا التفاهم المشترك على طريق بناء العلاقات.
عودة الى لبنان من "النافذة الإيرانية" التي فتحها لاريجاني، ذلك بأن محادثاته في دمشق، يمكن النظر اليها من نقطة البداية لتفاهماته مع القاهرة. فالمعروف ان القاهرة تريد اليوم قبل الغد خروج لبنان من أزمته وانتخاب رئيس للجمهورية وعدم تعرضه للانزلاق نحو الفوضى. ولا يمكن لإيران الا أن تأخذ في الاعتبار هذا الموقف المصري وهي تتحادث مع حليفتها دمشق.
لكن ما هو مهم أيضاً أن مثل هذا الموقف المصري يجد في طهران أولاً ولدى لاريجاني صدى حقيقيا وقبولا علنيا. فالإيرانيون على مختلف اتجاهاتهم وتوجهاتهم يريدون باختصار شديد حلاً ينقذ لبنان ولا يعرضه لأي انزلاق نحو العنف، طبعاً هذا لا ينفي مطلقاً رغبة طهران في أن يحقق "حزب الله" نقاطاً اضافية لصالحه وأن يزداد قوة على مساحة خريطة القوى السياسية، والفارق هنا كبير جداً مع دمشق التي لا تمانع مطلقاً ببقاء الفراغ فيه وصولاً الى الانزلاق نحو الفوضى اذا لم تحقق ما تريده سياسياً واقتصادياً وأمنياً من لبنان أولاً ومجموع العرب ثانياً.
وللمستشار علي لاريجاني خصوصية اضافية. فهو كان أول مسؤول إيراني تحدث عن الحوار حول مستقبل سلاح "حزب الله" في مقابلة له مع صحيفة "الفيغارو" في أواخر أيار من العام الماضي، والتي رغم رفض الرئيس أحمدي نجاد لمضمونها المتعلق بلبنان، الا ان تكذيبها بقي محدوداً لا يصل الى درجة الالغاء. ولذلك فإن لهذه الخصوصية أهمية لمحادثاته في دمشق لا يمكن التعامل معها على أساس أنه مبعوث عاديّ اذ يبقى موقعه كمستشار للمرشد أهمية منتجة.
تغيير أختري
مما يزيد من أهمية هذه الجولة وخصوصاً في محطتها السورية، انها في وقت أعلن رسمياً تعيين أحمد الموسوي سفيراً لطهران في دمشق، ليحل بذلك مع السفير المخضرم الشيخ الأختري. (كانت "المستقبل" قد أشارت في هذه الزاوية مبكراً لهذا التغيير وأهميته). وللتذكير فإن هذا التغيير يؤشر الى تحول في تعامل طهران مع سفارتيها في دمشق وبيروت، فقد كان الشيخ أختري يدير حكماً العلاقات الإيرانية السورية اللبنانية بكل تعقيداتها وتشابكاتها من دمشق منذ عودته اليها قبل عامين أي بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وفي عز الأزمة التي تشكلت في لبنان وحوله.
وهذا الفصل يعني حكماً ان طهران قد أخذت بمبدأ ان طبيعة العلاقات وخصوصية الحالة في لبنان تقتضي استقلالية عمل السفارتين، وبذلك فإن طهران ستستمع أكثر حول كل ما يتعلق بلبنان لسفيرها فيه محمد رضا شيباني، في حين ان سفيرها الجديد أحمد الموسوي الآتي من "الحرس" والمقرب من الرئيس نجاد لأنه نائبه لا بد أن يهتم أكثر بالشأن العسكري والأمني على صعيد العلاقات الثنائية.
وتبدو صورة الوضع حالياً في طهران أكثر هدوءاً رغم صخب زوارقها الحربية في الخليج. هذا الصخب الذي لا يخرج عن كونه مظاهرة بحرية لتذكير الرئيس جورج بوش القادم الى المنطقة بوجود إيران وحضورها بقوة في هذه المنطقة الحساسة التي عبرها ينقل الجزء الأساسي من نفط المنطقة الى العالم.
ومما يزيد من بلورة هذا الهدوء، شعور طهران بتراجع الحصار الأميركي لها، وفشل الرئيس جورج بوش وادارته في فرض المواجهة العسكرية على دول المنطقة. حتى عملية احتواء إيران كما كان يأمل بوش ويحاول العمل لتمريرها خلال زيارته للمنطقة تبدو كأنها اخفقت، لأن واشنطن كما يقول خبراؤها فشلت في تطبيق نموذج الحرب الباردة على الشرق الأوسط".
أزمة باكستان تريح إيران
وأخيراً فإن مأساة اغتيال بناظير بوتو في باكستان وخطر انحراف البلاد نحو التوتر الدائم وتضخم الخوف من الانتقال نحو الحرب الأهلية على أقل تقدير، أجبر واشنطن أكثر فأكثر على "حرف" اهتمامها نحو الباكستان للعمل لعدم انزلاقها نحو الفوضى لأن في ذلك تهديداً مباشراً لأمنها القومي سواء في ارتفاع درجة "طلبنة" باكستان أو في سقوط السلاح النووي كله ولو في جزء صغير منه في أيدي متطرفين اسلاميين أو غيرهم.
وفي حين كانت باكستان تشكل "الخاصرة الضعيفة" لإيران في خطة "الحرب الناعمة" الأميركية ضد الأخيرة (سواء باستثمار مشروع بلوشستان أو مرور مجموعات سنية محاربة الى الداخل الايراني) فإن واشنطن اصبحت الآن بحاجة لطهران كما في العراق للمساهمة في ضبط مسار التطورات، والعمل لضبط نمو التطرف داخل باكستان. ومن الطبيعي ان لكل شيء ثمنه، والايرانيون أفضل من فاوض في عالم المقايضة.
هذا الارتياح الخارجي، لا بد أن ينعكس على الداخل الايراني. ولذلك فإن الانتخابات التشريعية التي أعلنت الترشيحات لها رسمياً والتي ستجرَى على وقع أزمة اقتصادية تتجسد في ارتفاع معدلات التضخم وأزمتي البنزين والغاز لا بد أن تثمر رغم "مقصلة" مجلس صيانة الدستور على المرشحين تراجعاً للتيار المتشدد لمصلحة تحالف الاصلاحيين مع المحافظين المعتدلين بزعامة الشيخ هاشمي رفسنجاني، وبالتالي على تشكل السلطة التنفيذية في المستقبل.
طهران تعلم جيداً ان "شبكة الأمان العربية" التي صاغتها أساساً السعودية والتي تتدعم حالياً بمصر، ليست تحالفاً معها على طريقة دمشق. ولذلك فإن استمرارية هذه "الشبكة" التي دفعت نحو تراجع موقف واشنطن ضدها مرتبط بتفهمها ومن ثم بدورها الايجابي في المنطقة، والعكس صحيح.
لبنان حالياً نقطة اختبار أساسية للاعتدال الإيراني، إن هي أحسنت ادارة موقفها فإن ذلك سيجد صدى له سعودياً ومصرياً وعربياً، والعكس صحيح. كل ذلك ضمن مهلة لا تسمح بالمراهنة لها على الوقت لأن دائرة النار تضيق حول لبنان.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.