لم يعد لدى باريس أي شك بأنه يجب مراجعة كل مرحلة التفاوض مع دمشق، والعمل من جديد على بناء آلية جديدة قادرة على تصحيح الوضع مع الأخذ في الاعتبار "وقف الانزلاق أمام مطالب دمشق المتدحرجة بسرعة تختلف مع اختلاف المراحل".
هذا التوجه في التعامل مع دمشق، يعني ضمناً اعترافاً فرنسياً حقيقياً، بأن دمشق "ربحت الجولات الماضية، بعضها بالنقاط وبعضها الآخر بالضربة القاضية". وما هذا الربح إلا لأن دمشق قد عملت وفق "استراتيجية صلبة، رافقتها آلية مبرمجة، إضافة الى شعور واضح وعلني بأنه ليس لدى دمشق ما تخسره أكثر مما خسرت بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وأن لديها الكثير لتكسبه في معركة قائدها "الجنرال وقت"، واستعداد ميداني لتجاوز كل الحواجز ولو اقتضى الأمر الكثير من التضحيات".
"الجائزة الكبرى"
"الجائزة الكبرى" في هذه المعركة بالنسبة لدمشق كانت استمرار بقاء النظام وسلامته. وقد حصلت عليها باكراً عندما أكدت واشنطن وباريس علناً أن المطلوب هو تحسين سلوك النظام وليس تغييره. وعندما أيضاً أبلغت تل أبيب العاصمتان، قلقها الكبير من أن يكون البديل للنظام "الاخوان المسلمون" أي تحالف إسلامي معارض. ومن الطبيعي أن يلقى هذا كله آذاناً صاغية ليس لدى واشنطن وباريس فقط وإنما لدى مختلف العواصم الغربية.
بعد هذه "الجائزة الكبرى"، تصبح باقي "الجوائز" ربحاً إضافياً يسند "الصمود والتصدي" في المواجهات الكلامية الحادة أو المفاوضات العلنية أو السرية الحامية. ولا شك هنا أيضاً أن دمشق كانت وما زالت تعتبر المكسب الحقيقي لها هو في لبنان. وقد عملت استعداداً للمنازلة الأخيرة، كل خبراتها الماضية ورصيدها الضخم داخل القوى السياسية اللبنانية، لإعادة وصل ما انقطع من خيوط "بيت العنكبوت"، الذي تمزّق لدى الخروج العسكري من لبنان. وقد نجحت الى حد ما في تحقيق هذا الانجاز. فالحضور السوري على مساحة الساحة السياسية في لبنان أصبح فاقعاً في كل شيء، حضوراً وممارسة واستعداداً للمستقبل.
إذا كانت دمشق قد فاوضت وفق استراتيجية لا ترحم فإن واشنطن وباريس عملتا معاً أو على انفراد من دون استراتيجية مرسومة ولو في خطوطها الأولية. واشنطن كانت وما زالت تعتبر لبنان ملفاً من ضمن حزمة ملفات الشرق الأوسط مع شيء من الالتزام الأخلاقي والعاطفي بإنجاح "ثورة الأرز"، أما باريس فإنها اعتمدت كثيراً على استثمار ماضي تجربتها السياسية مع أن الوضع أصبح مختلفاً كثيراً، وقد أثبتت التطورات أنه لا يمكن التفاوض مع دمشق التي لم يعد لديها ما تخسره بعدما خسرت لبنان، كما كان يتم التفاوض معها وهي في لبنان.
أما الخطأ الأساسي في عملية المفاوضات كلها التي عملت وفقها باريس وأيّدتها واشنطن التي لم يكن لديها الكثير لتقدمه، أن قاعدة التفاوض كانت خاطئة، إذ كيف يمكن التفاوض حول استقلال لبنان انطلاقاً من القبول بتقديم تنازلات لدمشق تمسّ صلب هذا الاستقلال كما حصل حول التوافق والرئيس التوافقي والحكومة والحقيقة أنه يوجد استقلال ناجز مئة في المئة أما الاستقلال وفق نسب تذهب من 90 في المئة الى خمسين في المئة يعني نصف استقلال، ونقطة على السطر.
الحضور الفرنسي في المنطقة
المشكلة الحقيقية أن دمشق فاوضت وكأنها غير معنية بالأزمة طالما أن الجميع دفعها أو وافق على خروجها من لبنان وشطب حضورها فيه علناً ثم جاؤوا يطلبون مساهمتها بالحل من جديد. وباريس فاوضت وعينها على مستقبل العلاقات في المنطقة خصوصاً وأن طفرة النفط واعدة جداً على صعيد العقود وببلايين الدولارات. بدورها فإن واشنطن دعمت باريس في مفاوضتها لكنها وضعت خطوطاً صفر وحمر أمامها من دون أن تقدم شيئاً لمساعدتها أكثر من الدعم الخطابي، الذي ثبت أنه "شيك بلا رصيد".
باريس فاوضت دمشق لأنها كانت وما زالت تريد أن تحقق استقلال وسيادة لبنان للبنانيين. همّ باريس كان وما زال إنقاذ لبنان، لأسباب أصبحت معروفة جيداً. لكن ذلك لم يمنع مطلقاً باريس ـ الساركوزية من التفكير والعمل لإقامة علاقات متينة ومنفتحة مع دمشق، لأن بمثل هذه العلاقات يمكن الدخول بقوة على ملفات المنطقة.
هذه القناعة زائد "النهج الساركوزي" في العمل الذي يقوم على "الهجوم بقوة"، دفع بباريس نحو التفاوض مع دمشق حول الحل في لبنان، بإيجابية مفرطة وصلت أحياناً إلى حد الوقوع في "السذاجة". والواقع أن باريس لم تكن ساذجة حقاً. كل ما في الأمر أنها كانت مفرطة في تفاؤلها حول رغبة دمشق بالعودة بسرعة الى أحضان المجتمع الدولي.
الحقيقة أن دمشق كانت تريد هذه العودة عن طريق باريس لكن بشرط أن لا تكون محطتها النهائية باريس وإنما واشنطن. دمشق منذ البداية لعبت مع باريس لعبة "بلياردو" الثلاث طابات. أي أنها عملت دائماً على إصابة باريس بهدف تحقيق الزاوية الأفضل للالتحام بواشنطن.
من أجل هذا "الالتحام"، لم تتكل دمشق فقط على "الكرة الباريسية" اعتمدت أكثر على تقديم "الخدمات" المحسوبة بدقة للأميركيين الغاطسين في "الرمال المتحركة" للعراق. ومن ذلك أنه في كل مرة صرّح فيه الأميركيون غضباً أو هلعاً من الحدود المفتوحة بين سوريا والعراق التي مكّنت سواء "المجاهدين" أو "إرهابيي القاعدة"، من الانتقال الى الداخل العراقي ورفع درجة الحرارة الميدانية، كانت دمشق تسارع الى تقديم ما يرضي الأميركيين بإقفال الحدود لتأخذ منهم الشكر والمزيد من التراجع ولو الى حين.
لعبة "القط والفأر" نجحت بين واشنطن ودمشق حتى الآن. المشكلة أن دمشق لم تعد ترغب حالياً أكثر من مهادنة واشنطن على أمل حصول التغيير الكبير مع رحيل إدارة جورج بوش كلها. وعندها يمكن فتح صفحة جديدة من التفاوض مع الإدارة الجديدة سواء كانت ديموقراطية أو جمهورية.
تفاؤل دمشق بالتغيير الكبير "مشروع" لكن الزيادة في التفاؤل خطرة جداً. لأن الإدارة القادمة في واشنطن لن تكون "محافظة متشدّدة" وقد تكون "براغماتية" أكثر لكن الواقع يؤشر الى أن هيلاري كلينتون أو حتى أوباما لا يفعلان أكثر من تقديم "فرصة واحدة" لدمشق أو الأفضل القول "عرضاً يتيماً"، إما تقبله أو ترفضه مرة واحدة. ومن الطبيعي أن للقبول مردوداته وللرفض نتائجه. أما إذا كانت الإدارة القادمة جمهورية فإنه إذ انتخب ماكين فلن يكون أقل تشدداً على الصعيد السياسي وإن كان أقل تشدّداً فكرياً. أما إذا انتخب هاكابي أو جولياتي، فإن على دمشق الانتظار طويلاً في "محطة التفاؤل" لأن القطار لن يمر فيها.
باريس تنتظر الآن لترى ماذا سينتج عن المبادرة العربية. في الوقت نفسه فإن الرئيس نيكولا ساركوزي يكون قد عرف مباشرة خلال جولته الخليجية، خصوصاً في محطتها الكبرى في الرياض ولقائه مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز "حقيقة تضاريس الموقف العربي خصوصاً مع اقتراب استحقاق انعقاد القمة العربية". وبناء على معرفة "إحداثيات هذه التضاريس"، يمكن بناء "آلية" جديدة للتعامل مع دمشق وأيضاً مع الأزمة في لبنان المفتوحة على كل المخاطر.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.