انفجار الكرنتينا لم يفاجئ باريس. منذ أيام تتوقع باريس ترجمة التوتر القائم وشبه انسداد أفق الحل باعتداءات وانفجارات أمنية. كل شيء ممكن حالياً تحت لافتة "القاعدة". المهم ان "الرسالة" وصلت، وليس هناك من "سقف" أو "حدود" لوصول "رسائل" أخرى.
الأزمة في لبنان لم تعد "أزمة لبنانية" منذ زمن طويل. انها أزمة اقليمية ـ دولية. كل العواصم معنية. حتى لو جرت مصالحة بين هذه العاصمة أو تلك، سواء كانت عربية ـ عربية، أو اقليمية ـ اقليمية، فإن ذلك لن يوقف تصعيد حرارة الموقف، حتى نهاية الربيع المقبل على الأقل.
"ورقة التين"
باريس التي أخذت علماً بالموقف، بعد ان بلعت "مرارة" تجربة برنار كوشنير ـ كلودغيان، تعيد حساباتها، المستندة هذه المرة إلى تفاهم مع الرياض، المهم ان باريس تدرك الآن انها وقعت في "فخ شاميّ" ولن يكون من السهل حتى لو جرى بلع "مرارة" التجربة، البقاء "مكتوفة الأيدي". أمام باريس القيام بعمل مهم، اذ ليس أجدى من المثابرة حتى النهاية.
ترجمة هذا التصميم في صوغ آلية جديدة. لكن باريس ستترك الوقت للمبادرة العربية. وهي ستنتظر بفارغ الصبر حتى نهاية الشهر الجاري (27 منه) عندما يصدر الموقف العربي حول وساطة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، وفي ضوء ذلك يمكن معرفة الخطوة التي ستقوم بها، لأن المطلوب عدم الوقوع في "فخ شاميّ جديد".
لكن يبدو ان اقتناعات معينة بدأت تتبلور لدى باريس حول مواقف مختلف الأطراف، واذا كانت ترى ان الجنرال ميشال عون، لم يعد اكثر من "ورقة التين" لمواقف "حزب الله"، فإنها أيضاً تقر بأن الأكثرية، أو تحديداً قوى 14 آذار، افتقدت على غرارها وواشنطن "استراتيجية" مبنية على وقائع واحتمالات ومعرفة جيدة لمصادر القوة والضعف لدى خصومها. ولذا خسرت الكثير من الجهود والدعم والالتفاف الشعبي، لقد انهكت معارك ثلاث سنوات بدون نتائج تذكر يمكن تلخيصها "بالصمود"، القاعدة الشعبية لهذه القوى. واذا كان من حاجة ـ وهي مطلوبة وملحة، لاستنهاض هذه القاعدة الشعبية، فإن المطلوب اعادة قراءة الوضع في العمق وتقديم استراتيجية واضحة ولو متوسطة المدى، يتم ترجمتها في "خريطة طريق" من نقطة الانطلاق الى نقطة الوصول.
المرحلة المقبلة، ستكون أصعب مما مضى. وهذه الصعوبة ناتجة من "التماسك المكعب" لقوى المعارضة، ولأن دمشق مستعدة للذَهاب بعبدا في هجومها الى درجة اختراق كل "الخطوط الحمر".
والأهم ان ذلك يجري في وقت تتراجع باقي القوى الى درجة ان التهديد باللجوء من جديد الى مجلس الأمن، أصبح يلاقى "باللامبالاة"، علماً ان العقوبات التي وقّعت ضد إيران أصبحت نتائجها معروفة ومقروءة بوضوح علي مجرى الاقتصاد الايراني ويوميات الايرانيين، وخصوصاً لدى تعاملهم الواسع مع الخارج.
"طنجرة الضغط"
نقطة كبيرة ومهمة جداً، تبقى غامضة جداً أمام باريس، وهي حقيقة موقف "حزب الله" وسط "لعبة الأمم" التي تجري فوق "لبنان ـ الساحة". وهنا تتساءل باريس علناً وخصوصاً بعد خطاب أول من أمس للسيد حسن نصرالله. ماذا يريد "حزب الله"؟ والى أين يريد ان يصل خصوصاً مع التشديد على ان المعركة آتية؟".
أمر واحد يبدو مؤكداً لدى باريس بالنسبة الى "حزب الله"، ولكن هذا التأكيد يزيد غموض موقف الحزب وهو ان "حزب الله" لا يريد الغرق في أوحال الحرب الأهلية، وباريس تعرف ان "حزب الله" يعرف ان سقوطه في هذه الأوحال يعني نهايته، حتى لو ربح عسكرياً في معركة شوارع وأزقة بيروت وممرات المناطق؟ وفي الوقت نفسه فإن "حزب الله" المستند الى هذا الموقف السليم فإنه لا يفعل شيئاً لتفادي الانزلاق نحو هذه الأوحال سواء اذا وقع فيها مباشرة أو بالواسطة.
وفي اطار كل هذه التساؤلات، فإن لا شيء يبرر للحزب، اذا كان يريد تحسين وضعه وموقعه في اطار التسوية الداخلية، ان يتشدد الى درجة "الأسر داخل دائرة مواقفه التي لا يمكنه التراجع عنها، لأنه يربط التراجع بالخسارة مع العلم ان التراجع هنا يشكل ربحاً له لأنه يكون قد انقذ نفسه ولبنان من خطر اندلاع الحرب الأهلية، ولأنه أيضاً لا يمكن تبعاً لدقة المعادلات التي تتم صياغتها بالتفاهم والتوافق، ان يشطب ولو جزءاً صغيراً من حجمه ومواقعه داخل تشكل السلطة.
ومما يزيد حدة القلق في باريس من غموض موقف "حزب الله" التركيز الأخير (كلام الشيخ نعيم قاسم) على وجود مشروع ممانعة يمثله الحزب ومشروع التحاق. فهذا التوصيف اذا ما وضع في قلب "المواجهة الأميركية ـ الايرانية" تطفو على السطح أسئلة تحمل في طياتها مخاطر أكبر على لبنان والمنطقة. وأساس هذه الأسئلة يقوم على ما اذا كانت دمشق لا تريد المواجهة العسكرية مع اسرائيل وانها من أجل ذلك تتناول يومياً "الرسائل" العلنية مع دمشق حول جدوى التفاوض واستمرار الهدوء، واذا كانت طهران تتفادى المواجهة العسكرية الشاملة مع الولايات المتحدة الأميركية، يبقى موقف "حزب الله" الغامض؟.
الكلام الأخير للسيد حسن نصرالله رفع من درجة القلق الفرنسي. ذلك ان ترجمة حتمية المعركة في ظل هذه المعادلة، يكون في المواجهة مع اسرائيل، هذه المواجهة التي تنقذه من أوحال الحرب الأهلية وتفك عنه أسر مواقفه الداخلية المسدودة الافق ويستعيد الحزب شعبيته العربية وفي الوقت نفسه تكون هذه المواجهة بديلاً للحرب الأميركية ـ الايرانية الشاملة، ذات المخاطر المفتوحة على كل الاحتمالات. كما ان مثل هذه المواجهة، تفتح أمام اسرائيل الفرصة لتجربة الدروس التي اكتسبتها من هزيمة حرب 2006.
الوضع في لبنان، أصبح مثل "طنجرة ضغط" على النار منذ زمن طويل. لا بد لمعرفة نوع "الطبخة" وحقيقتها من رفع الغِطاء. وهذا يكون إما بإطفاء النار وترك "الطنجرة" تبرد، وإما ان ينفجر كل ذلك، والاتكال عندئذ على الحظ والكثير الكثير من الصلوات.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.