قبل عام واحد بالضبط، وقعت حادثة جامعة بيروت العربية. كان العالم كله مجتمعاً برئاسة الرئيس جاك شيراك في مؤتمر باريس ـ 3، لجمع الأموال لإنقاذ لبنان ودفع اقتصاده نحو خشبة الخلاص، وفي شوارع بيروت كانت عمليات الكرّ والفرّ تتوالى زارعة الرعب على وقع تصعيد مذهبي غير مسبوق بهذه الحدّة والعنف. اعتقد اللبنانيون ان جحيم الحرب الأهلية قد فتح.
"بروفة" هذه الحرب في منطقة الطريق الجديدة زرعت الرعب، وتضافرت الجهود الداخلية والخارجية، حتى جرى وأد وحش زواريب بيروت، واعتقد الكثيرون أن الرسالة قد وصلت، والدرس قد حفظ، ولن يكرّر أحد بعد اليوم التجربة. فالحرب تعلن في ساعة محددة لكن لا أحد بمن فيهم أصحاب القرار يملكون قرار إعلان يوم نهايتها، وهذا الواقع وصل إلى درجة أن المتقاتلين كانوا وهم في جحورهم يردّدون لو عرفنا ان الحرب ستستمر كل هذه السنوات لما تحمسنا لها ودخلنا في أتونها.
لا ضمانات
اليوم، لا أحد يمكنه ضمان عدم تحوّل الاضراب المعلن، إلى حادثة تتجاوز أحداثها جامعة بيروت العربية قبل عام. حادثة سليم سلام قبل أيام شكّلت برأي الجميع "بروفة" أخرى لما قد يحصل اليوم أو غداً. الجميع يعلن براءته من توتير الشوارع، ولا أحد يجيب عن تساؤل المواطنين عن دقة حركات المجموعات وحفظها لخريطة طريق واضحة التفاصيل. الخطر قائم ولا تراجع.
ليست الأسباب المعلنة حول الأزمة المعيشية أكثر من لافتة لكل هذا التسييس للاضراب. الأزمة المعيشية قائمة وثابتة، ولكن بدلاً من الحفر ردم الحفرة، تستمر عملية الحفر وتعميقها عبر فرض هذا الفراغ وكأن الهدف الأساسي هو إلغاء الدولة القائمة وفتح "الساحة اللبنانية" كلها أمام الأعاصير التي تدور حولها منذ ثلاث سنوات.
حلّ الأزمة المعيشية، يكون بالعمل على إلغاء هذا الفراغ المنظم وانتخاب رئيس للجمهورية أولاً وقبل أي شيء.
لبنان هو الخاسر الكبير في هذا الصراع الذي يخفي مشاريع تتجاوز مجرّد الخلاف على الرئاسة وعدد الوزارات وأسماء الوزراء، وأيضاً في اقتلاع مخيم رياض الصلح الذي يعلم القائمون عليه أنه فقد مشروعيته وأصبح عبئاً على الذين فرضوه وحموه.
حتى الآن خسر لبنان الكثير. عام 1975 خسر فورة أسعار النفط التي نشأت نتيجة "لحرب رمضان". لم يحصل لبنان على دولار واحد لاستثماره خارج الحرب والسلاح، حالياً وفي عزّ فورة أسعار النفط التاريخية التي أمّنت للدول العربية المنتجة للنفط ودائع قيمتها ألفا مليار دولار فقط لا غير. فإن لبنان بسبب حالة الحرب الأهلية الباردة التي يعيشها لم يحصل على أكثر من ملياري وثلاثمئة مليون دولار. لو كان لبنان يعيش في جو من الأمن والاستقرار مع حرارة سياسية مرتفعة، ألم يكن ما حصل عليه هذا المبلغ مضروباً بعشرة أو حتى بعشرين، وبذلك فإنّ الأزمة المعيشية التي يستثمرونها في شوارع وأزقة بيروت لم تكن موجودة، وقوافل المهاجرين من الشباب تضخ عقولها وسواعدها في أسواق العمل داخل وطنهم؟
الأزمة الكبرى
لو كان ما يجري من أزمة سياسية لبنانية ـ لبنانية ونتاجها سيصب في النهاية في لبنان لمصلحة اللبنانيين، لكان الكثير من اللبنانيين قد قبلوا بتقديم مزيد من التضحيات على طريق بناء الدولة القادرة والقوية. ما يحصل عكس ذلك نتاج هذه الأزمة ليس سوى مخلفات للمواجهات الأكبر اقليمياً ودولياً، وفي النهاية الولايات المتحدة الأميركية وطهران ودمشق هي التي ستتبادل "الهدايا" أو "الأوراق" في عمليات مقايضة على حساب اللبنانيين وغيرهم.
هذا التصعيد الجديد ليس مفاجئاً ولا بريئاً. "هدنة" المبادرات انتهت. المبادرة الفرنسية توقفت أمام باب دمشق، والمبادرة العربية جرى إغراقها في تفاصيل الأرقام، والجميع بانتظار ما سينتج عن الاعتراف بالفشل، ولكن أيضاً ولأول مرة في وضع النقاط على الحروف والإعلان ضمناً وعلناً انّ دمشق أولاً وأساساً ومعها المعارضة اللبنانية هما المسؤولان عن هذا الفشل.
من الطبيعي وكما اعتادت دمشق ومعها أطياف المعارضة اعتماد سياسة الهجوم الوقائي. هذا التصعيد هو جزء من هذا الهجوم. دمشق لا تريد أن يقع اجتماع الجامعة العربية في 27 من الشهر الجاري وأن يتم علناً تحميلها المسؤولية، كما فعلت باريس مع تصريحات الرئيس نيكولا ساركوزي ووزير خارجيته برنار كوشنير، والمعارضة أيضاً لا تريد تحمل المسؤولية عربياً ودولياً عن الفراغ المنظم، حتى لو كانت تغطية هذه المسؤولية تتم بالصراخ عالياً بأنها تواجه الولايات المتحدة الأميركية.
إضراب اليوم، حتى لو مرّ بسلام، سيكون "رسالة" ميدانية لكل العواصم وفي مقدمتها القاهرة والرياض وباريس، بأن القادم أعظم، خصوصاً إذا ما قررت الأغلبية الفاعلة والمؤثرة من الدول العربية عقد قمة طارئة في القاهرة لمعالجة أزمتي غزة ولبنان. مثل هذا القرار يلغي ضمناً القمة العربية العادية في دمشق أو على الأقل يقزمها ويلغي مفاعيلها.
لذلك فان الفترة القادمة وتحديداً حتى نهاية شباط القادم، سيكون كل يوم فيها امتحاناً ميدانياً للقوى وقدراتها على التحريك والمواجهة والصمود.
ما يؤكد أن التصعيد لن يكون محصوراً بإضراب اليوم ومفاعيله، وأنه ربما امتد طويلاً إلى حين معرفة المسار النهائي للتوجه العربي ـ الدولي في التعامل مع دمشق، هذا وهذا التصعيد الأميركي الحاد ضد دمشق.
ما يؤكد ذلك كلام ساترفيلد كبير مستشاري وزيرة الخارجية "بأن الرئيس جورج بوش قد اجتمع مع معارضين سوريين في إطار اهتمام بلاده بدعم الاصوات المطالبة بالتغيير في سوريا.. وأن الحكومة السورية تتحمّل مسؤولية الأزمة السياسية في لبنان وتقوم بعرقلة انتخاب رئيس جديد سعياً وراء استعادة هيمنتها عليه". طبعاً ليس لبنان وحده بيت القصيد في هذا التصعيد الأميركي، فالعراق في قلب هذه الأسباب الموجبة لأن دمشق ما زالت حسب ساترفيلد مستمرة في السماح للمقاتلين الأجانب وللانتحاريين بالمرور عبر أراضيها إلى العراق".
أهل غزة وخصوصاً النساء فيها عرفوا كيف يواجهون الحصار الإسرائيلي في دفع أزمتهم خارج "السجن المفتوح على السماء" الذين يعيشون فيه، فدمروا الجدار الذي يفصلهم عن مصر، ونقلوا أزمتهم إلى الخارج بدلاً من أن تأكل خبزهم وصبرهم وحاضرهم ومستقبلهم.
أما اللبنانيون فإنهم رغم الحرب الأهلية السابقة ورغم تجربة أزقة جامعة بيروت العربية فانهم يستعدون لخوض تجربة جديدة، وحدها دمشق ستقطف ثمارها لاحقاً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.