الاجتياح الشعبي الفلسطيني "للحدود الليّنة" لغزة مع مصر، نتيجة طبيعية لعملية الحصار والتجويع غير المسبوقة في التاريخ الحديث من طرف إسرائيل ضدّ شعب تعداده أكثر من مليون ونصف مليون إنسان. العدو الإسرائيلي من خلفهم، والبحر من أمامهم، والحل كان في الارتماء في أحضان مصر "أم الدنيا". مصر كما اعتادت، على قدر التحدّي والمهمة، ففتحت قلبها للمعذبين من الشعب الفلسطيني.
أما وقد حصل ما حصل، فقد حان الوقت للقيام بمراجعة هادئة وعميقة لكل ما حصل، تمهيداً للتعامل مع تطوّرات هذا الحدث المفتوح على كل الأخطار وسط ضباب الأزمات الاقليمية والدولية وعلى قاعدة العجز الكامل للمجتمع الدولي وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية من إخراج قطار الحل الشامل من "المحطة" الإسرائيلية. ومهما قيل عن "التسونامي" البشري الذي عبر الحدود بين غزة وسيناء، فإنّ مقدّماته لم تكن عفوية، ولا هي كما يبدو من تطوراتها أنها عملية دُرِست بعناية تضمن وضع حسابات دقيقة لها.
"التسونامي" الفلسطيني
نسف الجدار العازل بين غزة وسيناء، كان عملية منظمة من "حركة حماس"، بعدها حصل "التسونامي" البشري. والسؤال الذي تطرحه هذه العملية: هل درست "حركة حماس" التي تسيطر على السلطة والقرار في غزة أبعاد هذه العملية، أم أنها قامت بها تاركة المسألة لمشيئة الله؟!
لا شك أن التصعيد العسكري الإسرائيلي الذي وصل إلى حدود القتل اليومي المنظم، إلى جانب إغراق غزة في الظلام الدامس، مع ما يعني ذلك كله من انعكاسات قاتلة على الحياة اليومية لمليون ونصف إنسان، قد حشر "حركة حماس" في الزاوية. من جهة لم يعد بمقدورها التراجع بدون اتفاقات مضمونة عن القصف الصاروخي اليومي لأنّ مثل هذا التراجع يعني خسارة محتومة، كما أنها لم تعد قادرة على تحمّل الضغط الشعبي لأيام أخرى، لأنه مهما بلغت مقتضيات الصمود، فإنّ سؤالاً حقيقياً لا بد أن يطلّ على الساحة الفلسطينية وهو: ماذا نكسب مقابل هذه التضحيات اليومية؟
"حماس" أقدمت على هذه الخطوة على أساس أن يعطيها الآخرون الحل. والآخرون هنا مصر وإسرائيل والغرب الأوروبي وبطبيعة الحال الولايات المتحدة الأميركية وهذه الرمية النارية، تبدو مشروعة، إذ لا يمكن إنزال عقاب جماعي بشعب كامل لأن "حماس" مرفوضة من البعض أو أنها على لائحة المنظمات الإرهابية من البعض الآخر.
ولكن الآن ماذا بعد؟.
مصر أكدت بلسان الرئيس حسني مبارك أنها "لا تفرط بأمنها القومي ولا تسمح لأحد بأن يقترب منها أو يحاول اختراقها". وفي الوقت نفسه اعتمدت تبنّي "موقف ليّن مثل حدودها" فاستقبلت أهالي غزة وحضنتهم تخفيفاً منها لأزمتهم الإنسانية، ولو لم تفعل ذلك، ودخلت في عملية قوّة سال فيها الدم الفلسطيني والمصري لحشرت في ركن واحد مع إسرائيل.
صعود الشعور القومي
هذا الواقع أمر مستحيل وخطير وله استتباعاته الداخلية المدمرة على صعيد الأمن القومي خصوصاً مع وجود الرابط القوي بين "حركة حماس" و"الاخوان المسلمين"، هذا دون التحدث عن صعود الشعور القومي والأخوي داخل مصر وعلى مختلف الشرائح الشعبية، وما يمكن أن يحدثه من زلزال شعبي لاحقاً.
هذا الحل المصري موقت، لأن مصر محشورة حالياً فهي لا تستطيع ترك حدودها مع غزة مفتوحة بلا رقابة ولا حساب، فمصر كانت تتعرض لحملة أميركية ـ إسرائيلية حول الأنفاق وعمليات تهريب الرجال والسلاح وغيرها. أما الآن، فإن استمرار الحال على ما هو عليه لا بد أن ينعكس سلباً على علاقاتها الدولية. والسؤال الطبيعي أمام مصر هو كيفية التوفيق بين التزامها بمساعدة الشعب الفلسطيني في غزة وفي حماية أمنها القومي في وقت واحد؟.
هنا يأتي الدور الفلسطيني، وما لم يساعد الفلسطينيون أنفسهم ومصر في وقت واحد لا يستطيع أحد أن يساعدهم. ولذلك ليس أمام حركتي "حماس" و"فتح" سوى البدء فوراً بحوار شامل وجدّي وعميق بمشاركة ومباركة من مصر. وهذا الحوار يمكن أن يشكّل في نتائجه حلاً للخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني أولاً وحل مشكلة المعابر التي حوّلتها إسرائيل إلى "سكاكين حادّة" يضطر الفلسطينيون كل يوم للعبور عليها مع نتائج هذا العبور عليهم جسدياً ونفسياً.
وهذا الحوار المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى هو أيضاً لمصلحة القضية الفلسطينية كلها، ذلك انّ إسرائيل كانت وما زالت تريد "ترحيل" قضية غزة إلى مصر وتحويلها إلى "مشكلة" مصرية أولاً وبما يضمن تخفيف الأعباء والضغوط الدولية عنها ثانياً، هذا على المدى القصير، أما على المدى الطويل فإنّ إسرائيل تريد أولاً وأخيراً تصفية القضية الفلسطينية.
هذا الوضع الجديد يفتح لإسرائيل بوابة التصفية ذلك أن ما كانت تحلم به وهو فصل غزة عنها ليس سوى مقدمة طبيعية لتلزيم مصر بالإدارة المدنية لقطاع غزة، على أن تكون الخاتمة في فصل الضفة الغربية وتكليف الأردن بالإدارة المدنية للضفة. وبذلك ترتاح إسرائيل من الهمّ الأمني وتعقيداته، ومن المفاوضات النهائية حول الدولة الفلسطينية وتصبح كرة النار الفلسطينية "كرة عربية" مئة في المئة.
هذا الهدف الإسرائيلي الواضح يجب إسقاطه لا بل يجب استثمار هذا "التسونامي" الشعبي في دفع المجتمع الدولي لوقف إسرائيل عن ممارساتها وتصعيدها تجاه الشعب الفلسطيني والإسراع في عملية التفاوض لإقامة الدولة الفلسطينية القابلة للعيش.
أولى خطوة نحو الحل، الخروج من حالة الغليان العاطفي والدخول في عملية حسابات عقلانية وواقعية ودقيقة من طرف حركتي "فتح" و"حماس". فالمشكلة لم تعد مسألة خسارة موقع في السلطة أو ربح موقع. المشكلة الآن أن تبقى القضية الفلسطينية أو لا تبقى. ومن أجل هذا، فإنّ على الفلسطينيين وتحديداً "فتح" و"حماس" والمنظمات الفلسطينية الشرعية التي تنبض على وقع القضية الفلسطينية أن تقوم بحساباتها وتقرّر خياراتها بعيداً عن مصالح القوى التي تقاوم بكل الشعوب العربية لتحسين مواقعها التفاوضية وسط هدوء واستقرار أشبه بنومة أهل الكهف.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.