8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

مصر رصدت عبر أزمة غزة محاولات لتصدير الخلافات العربية حول لبنان الى داخلها

الحدث في غزة، حدث لبناني. تطورات الوضع في غزة مؤشر حقيقي لتطورات الوضع في لبنان. التشابك القائم بين ملفات المنطقة الساخنة، قائم ولا حاجة لإثباته. لكن هذا التشابك وصل مؤخراً الى أعلى درجاته، لأن الأطراف الاقليمية والدولية المتصارعة أو المختلفة على أقل تقدير هي نفسها، وان كان بدرجات متفاوتة تبعاً لاختلاف في تضاريس كل أزمة على حدة.
مصر يعنيها لبنان من جوانب عديدة. لكن غزة هي "العمق الاستراتيجي لمصر، وعملية تنحية ما يجري في غزة عن التجاذبات الاقليمية مسألة تدخل في صلب الأمن القومي المصري". لذا من الطبيعي ان تتحرك مصر بكثافة أكبر باتجاه مواجهة أصل المشكلة في غزة والعمل لحلها. مهما يكن أي نجاح مصري يسجل في مواجهة الأزمة في غزة خصوصاً بعد تفجير الجدار الفاصل عند معبر رفح، لا بد أن ينعكس مباشرة على لبنان.
مؤتمر دمشق وتفجير الجدار
مصر رصدت باكراً "محاولات لتصدير الخلافات العربية ـ العربية ومسرحها اللبناني الى الداخل المصري"، واجهت مصر هذه المحاولات بتشديد قبضتها على تحرك الاخوان المسلمين في الداخل وخصوصاً ان حركة "حماس" مولودة من رحم حركة الاخوان المسلمين من جهة، وعمدت على الانفتاح الانساني على "التسونامي" الشعبي الفلسطيني القادم اليها خصوصاً وانها تعلم ان شدة الضغط اللاانساني الذي مارسته اسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة كان لا بد ان ينفجر بطريقة أو أخرى.
مصر لا تخفي مطلقاً "حساسيتها ورفضها" للسياسة السورية حيال الأزمة اللبنانية. ولذلك بادرت الى تزكية العماد ميشال سليمان للرئاسة على أساس ان هذا الترشيح يحلحل الأزمة ويفك عقدها ويرضي دمشق. لكن "حسابات" الحقل المصرية لم تتطابق مع "البيدر السوري"، فكان هذا الفشل المرصود حتى الآن، والقاهرة التي تعرف ـ واعترفت بالمصالح الاستراتيجية لسوريا في لبنان، تدرك أيضاً ان لدمشق يداً في الأزمة الفلسطينية والدليل المؤتمر الذي عقد في دمشق للفصائل المتحالفة معها او العاملة معها على السواء وكيف شاء التوقيت البارع، أن يقع انفجار جدار معبر رفح مع الخطابات النارية في دمشق.
الآن تواجه مصر مشكلة غزة بكثير من الحسابات والحذر الشديد. لا يمكن لمصر ترك الحدود "فالتة". وهذا امر مشروع وبين كل الدول، فكيف في حالة غزة المعقدة، ومصر ايضاً خاضعة في هذه الحدود لاتفاقات دولية سواء مع اسرائيل مباشرة او مع المجتمع الدولي وخصوصاً الأوروبي ـ الأميركي.
في الوقت نفسه لا يمكن لمصر سوى مراقية تطورات الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني وتحديداً بين حماس والسلطة. فهي لا تستطيع تسليم السلطة على المعابر الا للسلطة الوطنية التي يرأسها محمود عباس وليس لسلطة الأمر الواقع التي تتزعمها وتديرها حركة "حماس". لكن هذا التسليم لا يمكن أن يتم أيضاً في ظل خلاف مع "حماس" لما لذلك من انعكاسات على الداخل الفلسطيني ولكن أيضاً على الداخل المصري من خلال مواقف حركة الاخوان المسلمين.
عملية التدقيق التي يجب ان تقوم بها مصر، تعني في وقت واحد الجسم الفلسطيني كله، وحركة "حماس" على حدة، وأيضاً اسرائيل والمجتمع الدولي كله، لكن وهذا مهم جداً لا يمكن لمصر ان تتناسى أو تهمل موقف دمشق من كل ذلك. باستطاعة دمشق مع وجود خالد مشعل زعيم الحركة المعلن في دمشق ومن لف لفه من المنظمات التي شاركت في المؤتمر الأخير، ان تلعب على مختلف الأوتار لتأخذ ما تطالب مصر به.
هنا يأتي دور لبنان. دمشق حين يجب الاعتراف بوجود "عقل استراتيجي" يخطط لاستثمار كل الملفات ومقايضتها على حساب الآخرين، دون رأفة ولا رحمة ولا حسابات للخسائر طالما انها من أرصدة الآخرين وليس من كيسه، مستعدة لرفع سقف التفاوض مع القاهرة. ولا شك ان ما تريده دمشق من القاهرة موقف أكثر انسجاماً مع مطالبها في لبنان، عدم سير مصر وفق مسار دمشق، يعني تصعيداً ما في غزة، لإرباك القاهرة. وهذا ممكن جداً مع وجود تيارات وخطوط مفتوحة على بعضها البعض. تيار محمود الزهار الممسك بالأرض عسكرياً في غزة قادر على "خربطة" كل التفاهمات تحت حُجة الحصول على مكاسب فلسطينية داخلية.
استقبال حار من دون تطبيع شامل
مرة أخرى تبدو مصر واعية لطبيعة هذا الدور الدمشقي. وهي اذا كانت لا تريد الدخول في مواجهة علنية معها لأن ذلك ليس في مصلحة الوضع العربي المفكك أصلاً، فإنها وجهت "رسائل" واضحة مؤخراً تفصح اكثر مما تخفي بالاشارة الى "ان استمرار وجود بؤر مشتعلة في المنطقة انما هو لأجل اشعال القوى الدولية كي تغض الطرف عنها". وهذا التوصيف يتوافق مع التصعيد الحالي في لبنان. العقل الاستراتيجي الدمشقي، يرى ان رصيده يستمر في الارتفاع، كلما احتاجت اليه الدول العربية والاقليمية والدولية للعمل على إطفاء الحرائق، علماً انه يعمل كما تعمل بعض سفن الانقاذ في أعالي البحار، كلما ساهم في انقاذ سفينة رفع حصته من عائداته المكتسبة من ثمن السفينة المنقذة.
لإيران حِصة في كل ما يجري، علماً انها لاعب اقليمي مهم في لعبة الأمم، يهمه لبنان ومستقبل حماس وما يجري في العراق، لكن هذا الاهتمام ليس من اجل تحقيق انتصار على مثال دمشق في لبنان، ما يهمها أن يكون لها كلمة في استراتيجية المنطقة.
مصر التي اعترفت بعد تأخر طويل حجب بموقف مبدئي يتعلق بتسمية شارع باسم الاسلامبولي قاتل أنور السادات، بالموقع الايراني في المنطقة "استقبلت بحرارة الخطوات الجريئة باتجاهها ولكن في الوقت نفسه لا تبدو مصر مستعجلة للتطبيع الشامل، والاكتفاء بالتطبيع التدريجي". ما يشجع مصر حالياً على هذه السياسة اكثر من قبل تطورات غزة.
مهما كانت المكابرة لطهران حضور في الملف الفلسطيني، وهي تريد انجاز توسيع حضورها وتعميقه ميدانياً لأن طهران تعرف أن فلسطين هي "بوابتها الكبرى" للاستقرار في قلب مشاكل الحاضر والمستقبل في المنطقة. ومن هذه البداية تستطيع اخذ اعتراف عربي شعبي ورسمي بها قوة اسلامية لا تكتفي بالشعارات الاسلامية التحضيرية. زمن تصدير الثورة الى المحيط الاسلامي انتهى. حان الوقت بالنسبة لطهران لإشعاع دورها الاسلامي من المركز الفلسطيني.
أمام هذه الواقع، فإن مصر تستطيع ان تطالب طهران بمواقف ميدانية مباشرة ومنتجة في غزة من خلال تحالفها الوثيق مع حركة حماس والجهاد لا يمكن لطهران ان تخفي موقفها خلف مواقف دمشق ومصالحها في لبنان. لكل شيء حدود مع مصر، لأن مصر تاريخياً دولة اساسية وفاعلة في المنطقة. ولذلك من المهم جداً مراقبة المسار الايراني في الأزمة الفلسطينية على وقع تطورات الأحداث في غزة.
طبعاً لا يجب التغاضي عن الموقف الاسرائيلي ـ الأميركي، علماً ان لهما مصلحة مباشرة بألا تبقى الحدود بين غزة ومصر مفتوحة من دون انضباط وضبط، في الوقت نفسه، لا تستطيع اسرائيل تسهيل الحل المصري، دون معرفة انعكاساته على وضع "حماس" وعلاقاتها مع السلطة الوطنية الفلسطينية التي يجب أن تمسك "مفاتيح" معبر رفع مع مصر.
اللعبة معقدة كثيراً، على مثال لبنان، لكن الفارق كبير أيضاً. ان مشكلة غزة بين أيدي لاعب كبير في المنطقة هو مصر وهو قادر بدوره على استخدام أوراق عديدة اذا شعر ان امنه القوي معرض للخطر، وليس كلبنان الضعيف والمستضعف الذي كل همه ألا ينزلق نحو اتون الحرب الأهلية.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00