أخطر من هذا التصعيد غير المسبوق على مساحة "قوس الأزمات" الممتد من أفغانستان إلى لبنان، انه يجري في ظلال انسداد الأفق أمام أي حلّ أو تسوية. ولذلك يبدو وكأن لا متنفس لهذا الوضع سوى المزيد من الانفجارات الداخلية، التي لا يمكن لأحد التحكّم بتوقيت نهايتها ولا بنتائجها. غياب أي مشروع سياسي لكل هذه الأزمات، على مستوى جميع الأطراف المتحاربة أو المتواجهة، يرفع من درجة حالة التصعيد. لا أحد يملك بديلاً عن الفعل وردة الفعل في مسار معروف هو تقطيع الوقت حتى إشعار آخر غير محدد أيضاً.
من الواضح الآن أن فشل الاستراتيجية الأميركية التي وضعها الرئيس جورج بوش ونفذها على مدى أكثر من سبع سنوات، يلعب دوراً أساسياً في هذا الجمود فوق النار. طبعاً لو أن هذه الاستراتيجية قد نجحت أو حققت نجاحات محدودة لما كان الوضع أفضل، لأن معنى ذلك كان تصعيد المواجهات إقليمياً.
قدر منطقة الشرق الأوسط، أن فعل نجاح الاستراتيجية الأميركية يقع عليها، وفشل تلك الاستراتيجية يؤدي إلى قذف شظايا ذلك الفشل إلى داخل المنطقة.
أيام قليلة من الحرية
في الأيام القليلة من الحرية التي عاشتها غزّة بعد تفجير "جدار" الحدود مع مصر، انتهت وسط تصعيد غير مسبوق في اللهجة المصرية من قيادة حماس في غزّة. ليس أمراً عادياً أن يهدد وزير الخارجية أحمد أبو الغيط "بكسر الأقدام". لو لم تشعر القاهرة بأنها "طعنت" مباشرة في قلب أمنها القومي لما حصلت ردة الفعل هذه. بعض المعلومات تؤشر إلى أن الأمن المصري القى القبض على ثلاثين فلسطينياً يحملون احزمة ناسفة، هدفهم ملاحقة وضرب الإسرائيليين في سيناء. لكن حتى هذا لم يكن ليستثير المصريين لولا هذا التداخل بين "حماس" و"الاخوان المسلمين" مع كل ما يستتبع ذلك من حسابات ومخاطر على الأمن القومي لمصر.
"حركة حماس" عادت في غزّة إلى نقطة الصفر. الحدود مع مصر اقفلت من جديد وبتشدّد أكبر. المواجهة مع إسرائيل تبدو بلا أفق، خسائر غير محدودة للغزاويين وعائدات محدودة جداً في رصيد المواجهة مع إسرائيل. المشكلة أن خريطة الوضع تؤشر إلى الانحشار بين حدود مقفلة وجدار عازل وأهداف مفتوحة أمام إسرائيل. الحل قد يكون بمزيد من التصعيد اليائس وهو الاندفاع نحو تقديم مجزرة انسانية أمام عيون العالم ترتكبها إسرائيل لدى اندفاع مئات أو آلاف الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل عبر الجدار العازل. خطورة هذا الحل انه نتاج يأس مع أن اليأس لا ينتج سوى مزيد من اليأس، ومزيد من ردود الفعل الأجرامية وغير الانسانية لإسرائيل، يمكنها تبريرها بالعمل على حماية أرضها وشعبها.
أخطر من هذا الحل اليائس، أن يقع تزاوج بين حل"الاصطياد" الإسرائيلي لقيادات غزّة، وانفجار مواجهات داخلية بين تيارات تنضج حالياً ببطء، وبتواصل داخل "حماس". وهذه التيارات منها ما يريد ويعمل لمواجهة مفتوحة لا حساب فيها للخسائر الانسانية والمادية، ومنها ما يعمل حساباته على أساس وجود استراتيجيات تتوزع على مدى قصير وآخر طويل. ومما يعزّز هذا الخوف الذي يشبه اندلاع حرب أهلية صغيرة، انها تريح أطراف عديدة وتضعف دمشق وطهران معاً.
الحل المعطّل والإنهيار الشامل
لبنانياً. التصعيد وصل أعلى درجاته، لم يبق سوى الاحتكام إلى السلاح. لا يمكن أن يستمر الحل معطلاً، على أمل الإنهيار الشامل، والتقاط "ثمرة السلطة المهترئة" وأن يبقى الطرف الآخر صامتاً، يتراجع يومياً وصولاً إلى التصاق ظهره بحائط مسدود.
حالياً خطر الحرب الأهلية جدي، بعد ان كان احتمالاً. مهما بلغت المكابرة، كل الأطراف مسؤولة. و"حزب الله" يتحمل الجزء الأكبر من هذه المسؤولية، فاذا كان لا يريد الحرب لانها تقتل وجوده المقاوم، فلماذا يترك المنافذ مفتوحة أمام تغذية القلق والخوف والاستقواء به وبسلاحه؟
دمشق تريد العودة إلى لبنان بأي صيغة من الصيغ. هذا ليس سراً ولا تهمة انه هدف قائم. وهو يتعزّز يوماً بعد يوم. كلما اقتربت ساعة الالتحام في الشوارع، دقت ساعة العودة بالنسبة لدمشق. قد تكون قوى أساسية في المعارضة مقتنعة بأن مواجهة واشنطن تتطلب الاندماج مع "دمشق الممانعة"، لكن ماذا سيفعلون إذا استيقظوا يوماً ووجدوا أن "دمشق الممانعة" أصبحت "دمشق التفاوض"، وانهم بذلك خسروا المعركتين الصغرى في لبنان والكبرى ضد واشنطن؟
وماذا إذا ما أطل العام 2009 وفي واشنطن إدارة جديدة يترأسها جون ماكين، الذي تشدّده الأميركي موروث عنده أباً عن جَد، مما سيجعلهم يترحمون على أيام إدارة جورج بوش وفوضى استراتيجيته؟
العراق أيضاً يبدو على أبواب مقاربات جديدة في أزمته الدموية، التصعيد يهدأ فترة ليتأجج فترات. والانسحاب العسكري الأميركي مؤجل. ورحيل بوش لن يفكك الأزمة، خصوصاً أن انتخاب ماكين أيضاً يعيد كل الحسابات إلى الصفر. لأن ماكين يرى أن بإمكان الولايات المتحدة الأميركية البقاء في العراق لمئة سنة قادمة، خصوصاً وأن أكثر من ستين عاماً مضت عليها في اليابان وأكثر من خمسين عاماً في كوريا الجنوبية.
أكبر الأخطار بلا شك القائمة في أطراف "قوس الأزمات" بعيداً عن المنطقة وهي أفغانستان، ربما تحت ثلوج أفغانستان التي يكمن فيها "الموت البارد" تكاد تتشكل "الهزيمة" الفعلية ليس للولايات المتحدة الأميركية فقط وإنما لحلف الناتو كله. يكاد هذا "الحلف" أن يصبح حلفين: حلف الذين يريدون القتال وحلف الذين لا يريدون". عندما يجر "العربة" حصانان كل حصان باتجاه، تكون النتيجة تدمير "العربة".
لا يمكن لواشنطن تحمل مثل هذه الهزيمة الاستراتيجية، التي تطال العمود الفقري لكل وجودها وانتشارها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. السؤال الكبير الآن خصوصاً مع اقتراب الربيع وإمكانات "الهجوم الطالباني" الواسع، كما اعتاد الأفغان في حروبهم، ماذا ستفعل واشنطن لوقف هذه الهزيمة المعلنة. ولذلك أين وكيف سترد؟
البعض يرى أن الرد الأميركي قد يكون بتوجيه ضربة عسكرية واسعة ضد إيران وبالتحالف مع إسرائيل، وان مثل هذه المواجهة ستجر مواجهة اخرى مع سوريا و"حزب الله". الأسوأ من هذا الاحتمال فتح أبواب "عرقنة" "قوس الأزمات" على مصراعيه وعلى مختلف أنواع الحروب المذهبية والطائفية والقبلية حتى يتعب الجميع، ويقبلوا بالحلول الجاهزة. وفي الحالتين خاسر كبير هو شعوب هذا "القوس".
مراهنة دمشق أن العام 2009 سيحمل معه تباشير الحسم لمصلحتها، مراهنة خطيرة جداً، لأن في قلب هذا الرهان هذه المرة الأمن القومي الأميركي. مهما اختلف الأميركيون فانهم لا يختلفون حول كل ما يتعلق بهذا الأمن.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.