لم تعد "إزالة اسرائيل" شعاراً "شقيرياً" لاستنهاض الفلسطينيين في الشتات والمخيمات، وتجييش العرب الحالمين. أصبح هذا الشعار بعد أربعين عاماً، وكأنه اعلان "لوفاة مبرمجة". لو كان الوضع العربي وتحديداً الفلسطيني منه، يؤشر فعلاً الى مثل هذه "الوفاة" وعودة "فلسطين من النهر الى البحر"، لكانت الصفوف المتوجهة للمشاركة في هذا "الواجب" وفي هذه "الأفراح" تمتد من "المحيط الى الخليج".
الكلفة العالية للحروب
عودة فلسطين المحررة ممكنة برأي الكثير من الملتزمين بالعهود والوعود ممكنة لأن زمن الحروب الخاطفة والكلفة المحدودة بالأرواح انتهى بالنسبة لاسرائيل ـ القيادة الاسرائيلية تعترف بذلك علانية. منذ حصار بيروت عام 1982، هذه الحقيقة قائمة وهي تأكدت وتثبّتت في حرب تموز 2006. كلما طالت الحرب، عانت اسرائيل واضطرت إما لطلب المساعدة من الولايات المتحدة الأميركية، (علماً ان لكل مساعدة ثمناً) وإما اللجوء في لحظة يأس الى الفرق في "عقود الماسادا" فيكون مخزونها من السلاح النووي نهاية لنا ولها على السواء.
عجز اسرائيل عن احتلال أراضٍ عربية جديدة أيضاً أصبح قاعدة ثانية. عسكرياً قد تنجح في ذلك هنا أو هناك. المعضلة في البقاء والاستمرار. لكل ساعة احتلال ثمنها. حتى غزة التي ترى تل أبيب ا نه يجب القيام بإعادة غزوها، يجري التساؤل على أعلى المستويات".
"ماذا سيحدث في اليوم التالي لاحتلال غزة؟
ما هي كلفة مثل هذه العملية البرية؟. وماذا لو نجحت "حركة حماس" في امتصاص الهجوم الاسرائيلي والمحافظة على بقائها بعد ذلك؟ وأين ستقام المعتقلات الجديدة؟ ومن سيتسلم مسؤولية القطاع بعد ذلك؟
هذه وقائع يمكن البناء عليها في اطار خطة استراتيجية عربية، يكون عمادها تجربة المقاومة في لبنان، وعلى أن تنتج هذه الاستراتيجية قبل أي شيء اعادة بناء جيوش عربية حديثة متكاملة قادرة على المواجهة لفترة زمنية طويلة، وامتصاص خسائر ضخمة في البشر والحجر معاً.
المشكلة، ان الوضعين الفلسطيني والعربي بلغا في انهيارهما أعماقاً لم يكن حتى أكبر المتشائمين من العرب يتخيلها. ومن لا يريد الاعتراف بهذا الانهيار الذي يبدو انه كلما بلغ عمقاً استثنائياَ جديداً، وتبيّن ان الهوّة ما زالت أعمق، ما عليه سوى ملاحقة ما يجري على أرض فلسطين التي كان من المأمول ان تشكل دولة قابلة للحياة، فاذا بها تتحول الى ساحة مفتوحة امام اغتيال فلسطين نفسها تحت اشراف اسرائيلي مباشر. كذلك تكفي ملاحقة "الحروب الأهلية" المفتوحة بشكل او بآخر على امتداد الوطن العربي ومن المحيط الى الخليج وتحت تسميات مختلفة من "الصوملة" الى "العرقنة" مروراً "بالجزأرة" و"السودنة" وبطبيعة الحال متابعة حروب "القاعدة" التي طاولت كل شيء حتى فلسطين، تكتمل تضاريس هذا الانهيار.
استنهاض العرب
من الطبيعي، لا بل من الضروري العمل لاستنهاض الشعوب العربية من جهة والعمل من جهة أخرى لإخراج الشعب الفلسطيني من يومياته الحزينة إلى درجة اليأس، لكن أيضاً مهم جداً أن تكون انطلاقة ذلك من واقعية ترمي إلى تغيير الواقع. وأولى قواعد مثل هذه المهمة ان يكون الهدف المطروح تحقيقه ممكناً ضمن المهلة المحددة له. لأن المهل الزمنية حاسمة في ذلك. وأن يكون تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل وكأنها مسألة محسوبة على المدى المنظور والقصير جداً، في حين انها كانت حتى الأمس مسألة أجيال، فإن عدم إنجازها يرفع من درجة اليأس ويدفع بالانهيار النفسي والفعلي نحو أعماق إضافية قد تكون قاتلة.
تحرير فلسطين كان وما زال يتطلب خطة استراتيجية عربية متكاملة المهمات والأدوار، قائمة على دراسة واقعية للقدرات والامكانات الحالية والمستقبلية لكل العرب ومن المحيط إلى الخليج، وبالتضامن والتكافل مع الجمهورية الاسلامية في إيران الطرف الجديد في هذا الطموح. هذه الخطة غائبة الآن أكثر من أي وقت مضى. لقد حاول العرب منذ أيام جمال عبدالناصر والشهيد عبدالمنعم رياض، وقدما "حرب تشرين" نموذجاً مصغراً لما يمكن لاستراتيجية مشتركة ولو محدودة ان تنتج سواء في تحرير جبل الشيخ لأيام أو لعبور قناة السويس، وتحرير أجزاء من سيناء.
البركان اللبناني
حالياً، حتى تخيل اتفاق عربي على الحوار والتفاهم لإخراج لبنان من هذا الفراغ المنظم الذي يدفعه يومياً نحو اتون الحرب الأهلية، التي إن انفجر بركانها هذه المرة فإن شظاياه ستكون خارقة حارقة للحدود، يبدو كأنه ضرباً من الخيال، فكيف بحل مأساة العراق أو الصومال مثلاً؟
المقاومة حررت أرض لبنان المحتلة، مع استمرار مزارع شبعا محتلة والأسرى في السجون الإسرائيلية، وهي أيضاً صمدت وانتصرت وأحدثت تحولاً تاريخياً في حرب تموز 2006، ولكن هل يعني ذلك كله ان تقع عليها مهمة تحرير فلسطين فيقع التحول الكبير وليدخل شعب لبنان كله وبقرار احادي في حرب مفتوحة على كل أنواع المواجهات العسكرية والمخابراتية؟ وهل من العدل أن يستمر لبنان ساحة هادرة تقدم يومياً البشر والحجر في حين أقرب الأراضي المحتلة إليه وهي الجَوْلان ساكنة وباقي كل الأراضي والساحات عامرة بالبناء والازدهار والاستثمارات؟
"الحرب" المفتوحة ضد إسرائيل، لا يمكن أن تجري في ظل تصاعد ونمو أخطار انزلاق يومي للبنان نحو الحرب الأهلية. لا يمكن خوض حرب تحرير وفي الوقت نفسه الغرق في مستنقع الحرب الأهلية. وجهة السلاح تكون ضد العدو وحده أو لا تكون، ولملمة هذه الساحات والشوارع أمام مجموعات وقوى لا يهمها من سلاح المقاومة سوى ما يخدمها مطلوب اليوم قبل الغد.
الخطوة الأولى نحو هذا الهدف الملح انتخاب رئيس للجمهورية، لأن في ذلك نزعاً لقفل وعاء الضغط اللبناني الموضوع على النار، وإقفال الشوارع أمام اللاعبين بالنار. الباقي تفاصيل.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.