المدمرة "يو.اس.اس.كول"، لن تقدم ولن تؤخر كثيراً في قوة وفعالية الأسطول السادس القابع في البحر الأبيض المتوسط. ان منطقة الشرق الأوسط، ليست بحاجة الى هذه "المظاهرة المسلحة البوشية"، للتأكيد على مدى "القلق البالغ الذي تشعره واشنطن (وباريس المشاركة في هذه المشاعر) على الاستقرار في لبنان والمنطقة. توجد ألف طريقة وطريقة لتبليغ هذا الاهتمام وبفعالية أكبر وأدق، مثل القرارات المتعلقة بمحاصرة بعض الأفراد والقوى المؤثرة مالياً في دمشق.
هذا الاعلان الذي أنتج بنفسه الضجيج المطلوب الطاغي على كل المؤثرات الصوتية أو الدموية في المنطقة، هو في جميع الأحوال "رسالة مضمونة الى عنوان واضح"، وفي توقيت حساس محسوب بدقة، هو اقتراب استحقاق انعقاد القمة العربية. "الرسالة" وصلت. السؤال: ما هو مضمونها؟
رفع درجة القلق
حتى الآن هذه "الرسالة" لم تخدم القوى "التي تريد الاستقرار" في لبنان. بالعكس، تم توظيفها في حملة سياسية منظمة اطارها: "العمل على إلحاق لبنان بالمشروع الأميركي ـ الاسرائيلي". وهذا يؤكد مرة أخرى أن المتشددين يتبادلون الدعم غير المباشر مع خصومهم المتشددين. بوضوح هذه "المظاهرة المسلحة" "سلبياتها كثيرة ومنفذة بشكل جيد، وايجابياتها نادرة ومنفذة بطريقة سيئة.
أكبر سلبيات هذه "المظاهرة"، انها رفعت من درجة القلق مئات المرات عند المواطن العادي قبل أي جهة أخرى.
وهذا القلق ناتج من "أن المنطقة حبلى. والمخاضات القوية والمؤلمة قد طالت كثيراً. لذلك لا بد ان تحصل هذه الولادة عاجلاً أم آجلاً. فهل اعلان قدوم المدمرة "كول"، يؤشر الى ولادة تحت النار؟ هذه الخلاصة، تجد ترجمتها في "السيناريو المتدحرج" الذي يدفع المنطقة كلها نحو الهاوية، لعل هذا السقوط يولد عالماً جديداً لم تنجح حرب العراق في انتاجه تحت شعار بناء منطقة الشرق الأوسط الجديد.
الرئيس جورج بوش الذي يرى كل شيء ينهار أمامه بما فيه موقعه في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة الأميركية يزداد "تنمراً" (من النمر الجريح) الذي لم يعد لديه ما يخسره. على الأقل يترك لخليفته مهمة "الثأر" له مكرهاً كان أم مختاراً. أكثر من ذلك، ان بوش الذي أنفقت ادارته منذ اعلانها "الحرب العالمية الثالثة" في العام 2001، في افغانستان والعراق نحو 775 مليار دولار حتى الآن فقط، (الانفاق ما زال مستمراً وسيستمر لسنوات أخرى) لن تشعر بفداحة هذا الانفاق اذا ما أضافت اليه خمسين مليارا اضافية في مواجهة مباشرة على ضفاف البحر المتوسط وتحديداً مع سوريا مباشرة، بحيث ان نتيجة الضربة الحاسمة ستكون مؤثرة جداً بالحلفاء وخصوصاً "حزب الله" وحركتي حماس والجهاد وفلول "القاعدة"، و"المقاومة" في العراق.
قبل الدخول في امكانية نجاح هذا السيناريو أو فشله، فإن سؤالاً أهم يفرض نفسه، وهو: هل فقدت واشنطن ثقتها وآمالها بالنظام في دمشق وهي التي تحفظت دائماً على كل المحاولات لمساءلته فكيف بضربه؟ وما هي الأسباب التي فرضت ـ اذا كان ذلك صحيحاً ـ لسقوط هذه "الرعاية" التي تعود الى بدايات الحرب الأهلية في لبنان عام 1975؟.
لا يختلف اثنان على أن الرئيس الراحل حافظ الأسد كان لاعباً استراتيجياً ماهراً يعرف متى يتقدم ومتى يتراجع ومتى يضغط ومتى يتعاون، ومتى يحارب ومتى يفاوض. هذه المهارات لا تبدو موجودة بذات القوة والحضور والفاعلية عند الرئيس الابن بشار الأسد، يضاف اليها اختلاف قواعد اللعبة وشروطها. ليس من الضرورة أن يتضمن "الارث" الخصائص الذاتية لمورث بحجم الرئيس الراحل حافظ الأسد.
الفرق بين المورث والوريث
لا شك ان الرئيس بشار الأسد قد ذهب بعيداً في لعبة المواجهة والضغوط في الملفات الثلاثة التي تعني واشنطن مباشرة وهي العراق وفلسطين (لأن أمن اسرائيل من الأمن القومي الأميركي) ولبنان لأن ساحته المكشوفة فتحت الاشتباك بين مختلف الأطراف المعنية في المنطقة.
ربما أخطر من ذلك كله، ان دمشق التي كانت رغم تحالفها مع طهران، واستثمار هذا التحالف على طريقة "المنشار" عرفت دائماً كيف تبقى تحت "خيمة النظام العربي"، فلا تخرج منها ولا تذهب بعيداً في المفاضلة بينها وبين الحليف الايراني. منذ حرب تموز 2006، انجرفت حركة دمشق بعيداً، حتى تكاد تكون حالياً خارج هذه "الخيمة". والدليل انها على خصام كبير مع الرياض والقاهرة والعديد من العواصم العربية الأخرى.
لا شك أن خروج دمشق من أحضان "الخيمة" العربية في هذا الوقت بالذات، يكشف "ظهرها" في مواجهة الضغوط الدولية. وفي هذا خطأ استراتيجي، كان على دمشق عدم السقوط فيه. يكفي أن طهران التي كانت تريد "تصدير الثورة الاسلامية" الى محيطها تخلت عن هذا المبدأ الأساسي لثورتها، لتحصن نفسها وتحمي ظهرها من الهجمة الأميركية ضدها. واذا كانت واشنطن تتردد في اشعال الحرب معها فإنما لأنها لم تنجح في احداث "انقلاب" لدى دول المنطقة، والتحالف معها ضد ايران تحت بند مواجهة خطر نووي محتمل.
هذه القراءة المتشائمة "للمظاهرة المسلحة البوشية" تواجهها قراءة أكثر ا عتدالاً وهي ان "المفاوضات بالنار" قد بدأت بين واشنطن وطهران ودمشق. واذا كانت زيارة الرئيس أحمدي نجاد الى بغداد هي "المظاهرة" المؤكدة للحضور الايراني فيها، فإن تزايد الأنباء عن لقاءات سرية بين مسؤولين سوريين واسرائيليين يؤشر الى توجه آخر. المعلومات المسرّبة عن لقاء سري جرى قبل أسبوع بين السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى وألون لئييل المدير العام السابق للخارجية الاسرائيلية الذي يرأس حالياً "الحركة لدفع السلام بين سوريا واسرائيل" تؤكد ذلك، والخلاصة التي خرج بها لئييل هي ان الرئيس الأسد يرغب باستئناف مباحثات السلام مع اسرائيل فوراً، وهنا يصح السؤال: هل تريد واشنطن ابلاغ دمشق ما لا تستطيع تل أبيب ابلاغها اياه بأن البديل عن التفاوض هو المواجهة حتى لا تذهب بعيداً في طرح حضورها في لبنان وفلسطين والعراق على الطاولة طلباً لأثمان غير مقبولة منها!.
أي مفاوضات سورية ـ اسرائيلية، لا بد أن تصب في النهاية في "الطاحونة" الأميركية، فلا اسرائيل يمكنها الحل والربط، فيما دمشق تريد تحويل طاولة المفاوضات الى "جسر" للعبور عليه الى واشنطن.
الاعتراض اللبناني على قدوم المدمرة "كول" طبيعي جداً. الصمت السوري لا يبدو مفاجئاً ولا مستغرباً. الذين يعرفون دمشق كيف تفكر هذه الأيام يقولون ان قناعة تسود حركة السياسة السورية عنوانها الكبير هو "ان الصدام غير ممكن والحل ليس عنوة".
هذه "القناعة" مهمة جداً لكنها غير كافية خصوصاً أن "اللعب" اقترب كثيراً من "النار". فهل ستعرف دمشق متى وكيف وأين تتوقف عن اللعب لتعود الى "ارث الحسابات الدقيقة" لتغرف منه فتحمي نفسها أولاً والمنطقة ثانياً التي لم تعد ولا تستحق حريقاً لن يخرج أحد منه سالماً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.